^ كشفت بيانات نشرها مكتب الإحصاء الأوروبي “يوروستات” مؤخراً، عن “ارتفاع نسبة البطالة إلى 10.8 في المائة خلال فبراير في منطقة اليورو، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل في المنطقة حوالي 17.134 مليون عاطل في فبراير بعد أن خسر 162 ألف شخص آخرين وظائفهم، وكان معدل البطالة قد بلغ 10.7 في المائة في يناير”. ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى تحسن الأوضاع هناك، بل على العكس من ذلك، إذ وحسب ما سراه الخبير الاقتصادي لدى جي.بي مورغان في لندن، رافاييل برون أجيري من “المتوقع أن ترتفع أكثر لتبلغ 11 بالمائة بنهاية العام 2012. بفضل التخفيضات في وظائف القطاع العام وتراجع الدخل وضعف الاستهلاك، كما إن توقعات النمو الاقتصادي سلبية وستؤدي لتفاقم البطالة”. وتعتبر هذه النسبة الأعلى منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي في نهاية القرن الماضي، وفاقت تلك التي استقرت عندها الأمور في العام 2011، عندما تراوحت النسبة بين 8.5% و 9.5%، وبلغ عدد العاطلين عن العمل حينها حوالي 12.1. وخيب هذا الارتفاع في النسبة، ومن ثم في عدد العاطلين عن العمل أمل “يوروستات” الذي توقع، تراجعها، وفي أسوأ الأحوال استقرارها” عند معدل 7.6%، حين فقد 3.2 مليون شخص وظائفهم، إذ أغلقت الشركات المصانع واستغنت عن العاملين فيها، في العام 2008، معتبراً ذلك أسوأ أزمة مالية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية”. تجد منطقة اليورو اليوم، وتقف وراءها الدول الأوروبية الثانية من أمثال بريطانيا، نفسها أمام خيارات صعبة ومعقدة، بعد أن ذهبت أيام الاستعمار الذهبية، حينما كانت الدول الأوروبية الاستعمارية تلجأ إلى حل أزماتها الاقتصادية والاجتماعية عن طريقين أساسيين، كانا في مقدورها، وتملك التصرف فيهما: الأول هو تصدير تلك المشكلات إلى المستعمرات، بتشجيع هجرة اليد العاملة الأوروبية غير الماهرة، وتنصيبها في مواقع عمل، وبرواتب خيالية، تقلص من حجم البطالة المحلية الأوروبية من جاب، وتحد من نسب التضخم أيضاً من جانب ثاني. والثاني هو إشباع رغبتها التوسعية النهمة في فتح المزيد من المستعمرات، كما جرى في أفريقيا، أو مضاعفة أشكال النهب، كما عانت منه الهند وبعض الدول العربية في الشمال الأفريقي. مع انتهاء حقبة الاستعمار، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وجدت أوروبا نفسها أمام تلك الخيارات الصعبة المعقدة، التي لم تكن قد هيأت اقتصاداتها لها، ولا تتقن هي فن، ومهارات التعامل معها. يضاعف من حدة أزمة البطالة هذه، تراجع أداء اقتصاديات اليورو منذ مطلع العام 2008، وعجز دول اليورو، منفردة أو مجتمعة، على الخروج بحل جذري يوقف ذلك التردي، ففي العام 2010، تناقلت وسائل الإعلام “تراجع الناتج المحلي الإجمالي الألماني صاحب أكبر اقتصاد أوروبي بمعدل 0.25% في الربع الثالث من العام 2009 قياساً إلى الربع السابق، مواصلاً بذلك مسيرة التراجع التي سجلها في الربع السابق، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا 0.5% “. وحذرت تلك المصادر المطلعة حينها من أن “من شأن هذا التراجع الجديد أن يضع الاقتصاد في حالة ركود فني نظراً لانكماشه فصلين متتاليين”. يتسع نطاق هذه الأزمة كي ينال اقتصاد أوروبي كبير آخر، يعد ثامن اقتصاد على المستوى العالمي، وهو الاقتصاد الإسباني، الذي “يواصل انحداره بتسجيل معدلات بطالة قياسية، فللشهر الخامس على التوالي ارتفعت أعداد العاطلين عن العمل بزيادة 7.8 في المائة بنهاية العام 2011، الأمر الذي دفع بالعديد من الإسبان إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل بالخارج”. وتتصدر إسبانيا، كما تؤكد تقارير “يوروستات”، قائمة الدول الأوروبية “من حيث معدل البطالة حيث تبلغ فيها 21%، كما إنها تضم أعلى معدل للبطالة في أوروبا بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً حيث يبلغ 45.7 بالمائة”. الأمر الذي يؤكد وقوف أوروبا أمام منعطف أزمة اقتصادية خطيرة، هو أن ما تعاني منه اليوم، ليس حدثاً طارئاً، فقد حذرت منه صحيفة “الإندبندنت” البريطانية في وقت مبكر في أواخر العام الماضي، عندما نشرت مقالة مطولة وذكرت الصحيفة، معتمدة على تقارير موثوقة، “أن النمو توقف في أوروبا وأن هناك خطراً من حدوث ركود اقتصادي جديد، يرافقه تفشي البطالة في جميع أنحاء أوروبا، وهو الأمر الذي أثار بالفعل احتجاجات حاشدة في العاصمة اليونانية أثينا والعاصمة الإسبانية مدريد”. وتستطرد الصحيفة محذرة من أن تردي هذه الأوضاع «يثير القلق لواحد من أكثر الأسابيع اضطراباً في التاريخ الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تكافح فيه اليونان وإيطاليا من أجل وضوح سياسي يقول الاقتصاديون إنه ضروري من أجل التغلب على أزمتيهما الاقتصادية”. ما يثير التشاؤم أيضاً، هو شروع الدول الأوروبية، بدلاً من معالجة الأزمة بشكل جدي، إلى تبادل التهم، وتحميل بعضها البعض مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية فيها، وأسطع مثال على ذلك اتهام رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي “ألمانيا وفرنسا جزئياً مسؤولية أزمة الديون في أوروبا”. طبيعة هذه الأزمة التي يتزاوج فيها الركود الاقتصادي، مع تعاظم المديوينة للدولة، وارتفاع نسب البطالة، تعكس مشكلة بنيوية، ليست مالية محض، كما تحاول أن تروج بعض مؤسسات الدراسات الاقتصادية الغربية، ومن ثم فإن الحلول الجذرية التي هي في أمس الحاجة لها، وليست المهدئات المفرطة في التفاؤل غير المنطقي التي تحاول بثها وسائل الإعلام الغربية في حديثها، مثل التباهي بنجاح “عملاق الإنترنت (فيس بوك) في المساهمة في إيجاد 232 ألف وظيفة في أوروبا في العام 2011”. لأن هذه الوظائف، وباعتراف وسائل الإعلام ذاتها، “هي في معظمها غير مباشرة وتشمل محرري البرمجيات ومطوري الإنترنت والوكالات الإعلامية وخبراء التسويق والاتصالات”. شبح أزمة بنيوية مفصلية تمس جوهر الاقتصاد الأوروبي، ويأمل العالم أن تخرج منها أوروبا بحلو جذرية ذاتية، تحول دون لجوئها إلى حلول استعمارية محسنة، مطلية بمساحيق تجميلية حديثة.