^ القديم مجدداً يفتش عم الرئيس السوري الحالي رفعت الأسد عن موطئ قدم له في شوارع الأحداث السورية، حين ينوه، في مقابلة أجرتها معه قبل يومين هيئة الإذاعة البريطانية، إلى شكوكه في قدرة “النظام الحالي في دمشق على البقاء طويلاً في السلطة، (بعد) أن بلغ العنف الحالي في سوريا حداً يفوق قدرة بشار الأسد وحكومته على البقاء”. لكنه يستدرك، تمسكاً بإبقاء الحكم في إطار عائلة الأسد، قائلا “إن عائلة الأسد لاتزال تحظى بشعبية بين أبناء الشعب السوري”. دون الحاجة إلى الذهاب في تفاصيل ما جاء في تلك المقابلة، بل وأخرى كثيرة غيرها، لم يتوقف رفعت عن إجرائها، منذ مغادرته دمشق، وحتى قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في سوريا، ينبغي التوقف عند مدلولات هذا البروز الأخير القوي لشخصية مثل رفعت الأسد، واحتمالات تأثيراتها على تطور تلك الأحداث. أول تلك المدلولات، هو اعتقاد رفعت الراسخ في ذهنه، والمتأصل في سلوكه أن هناك اليوم أكثر من أي فترة مضت، مجالاً مفتوحاً أمامه للعودة إلى دمشق، ليس بوصفه منفياً قد حصل على حق الرجوع إلى بلده، وإنما بصفته قائداً يستحق استلام زمام الأمور والإمساك بالسلطة. هذا الحالة السلطوية النرجسية، يختزنها رفعت الأسد عميقاً في داخل نفسه، ولم يكف عن إبرازها منذ نفيه من سوريا في منتصف الثمانينات، إثر محاولته قيادة انقلاب كامل على أخيه حافظ، كما يروي أحداثها التفصيلية، أحد أعمدة النظام السوري في تلك الحقبة، وهو وزير الدفاع مصطفى طلاس، أكثر من مرة في تصريحاته التي لم يكف عنها. ثاني تلك المدلولات، هو شعور رفعت الأسد بافتقاد المعارضة السورية بمختلف أجهزتها العسكرية والمدنية، إلى شخصية قيادية تمتلك المواصفات الكاريزمية التي تؤهلها لاستقطاب الشارع السوري، وحيازة شرعية القيادة. فحتى أبرز شخصيات قيادات المعارضة، من أمثال برهان غليون، صاحب “بيان من أجل الديمقراطية”، الصادر في مطلع الثمانينات، عرفت كشخصية أكاديمية مثقفة، أكثر من كونها رمزاً سياسياً قيادياً. الأمر ذاته ينطبق على النشط في مجال حقوق الإنسان، الذي يعيش في باريس، هيثم مناع، الذي ليس هناك من ينكر مساهماته النضالية، لكنها لم توصله إلى المكانة القيادية التي تحتاجها الساحة السورية اليوم. المدلول الثالث، هو إصرار رفعت الأسد على الاستفادة من عنصرين من عناصر القوة التي تحت يده: الأولى هي المؤسسة العسكرية، وهي سرايا الدفاع، حيث، وكما يبدو من أحاديث رفعت الأسد الصحافية، أن اضطراره للهروب إلى أوروبا، لم يبتر علاقته مع عناصرها، من جانب، ولم يفقد تلك المؤسسة العسكرية التي كان على رأسها تماسكها، بل وحتى حضورها، من جانب آخر، رغم الحملة التي شنها ضدها أخوه حافظ الأسد، ولم يتوقف عنها الرئيس السوري الحالي بشار، بعد توليه مقاليد الأمور. الثانية هي الأواصر العائلية التي حاول رفعت دغدغة مشاعر أفرادها وطموحاتهم السياسية بقوله، “إن عائلة الأسد لاتزال تحظى بشعبية بين أبناء الشعب السوري”. ينبغي عدم الاستهانة بالترابط العائلي، القائم على عصبوية طائفية، تغذيها المؤسسة “العلوية”. وقد حاول بشار، هو الآخر، الاستعانة بهذا العامل العصبوي من أجل تعزيز مواقعه داخل صفوف الأسرة، عندما شجع، قبل أكثر من عام، كما نقلت صحيفة “الحياة” اللندنية، خبر نجاحه في إقناع “واحد من أبناء رفعت المقيمين في سوريا (مضر، 27 عاماً) ليعلن انفصاله عن والده بالظهور على شاشة التلفزيون والتصريح، ليس لنا أب آخر غير حافظ أسد، (إلى جانب) ابن آخر لرفعت، يدعى فراس، أدلى أيضاً بإفادة علنية لدعم بشار”. المدلول الرابع، وهو الأكثر خطورة، ومن ثم تأثيراً، على تطور الأحداث ومستقبلها، هو أن الحرس القديم، الذي لم يستطع بشار أن يصفيه، منذ استلامه السلطة، قد بدأ يطل على ساحة الأحداث بوجهه البشع، ومشروعاته البالية. وهناك الكثير من تلك الرموز، ليس رفعت الأسد، وبشكل موازٍ له، عبدالحليم خدام، سوى أكثرها شهرة. هذه الطغمة، التي ربما ليست هي متجانسة اليوم، لكنها قادرة على تقليص خلافاتها، والتنسيق فيما بينها، من أجل اقتسام السلطة عند نيلها، وتوزيع الغنائم، والوصول إلى برنامج الحد الأدنى الذي يؤهلها لتقدم الصفوف، ونيل ذلك. يميز هذه المجموعة، عن سواها من الأطراف الأخرى المعادية للنظام مجموعة من العوامل، من بينها خبرتها الغنية في الخارطة السياسية السورية، وتغلغلها العميق في نسيج المجتمع السوري، وقدرتها على مد جسور التعاون الاجتماعي/ السياسي معه، يعزز من رصيدها هذا، علاقاتها القوية، على الصعيدين الإقليمي والدولي مع جهات ذات مصالح استراتيجية، ولديها الاستعداد لعقد تحالفات مع مجاميع من الحرس القديم، طالما يؤمن ذلك التحالف احتفاظها بمصالحها في سوريا، كأحد المراكز المهمة في خارطة الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية على حد سواء. أخطر ما في الأمر، أنه، وأمام تفكك مؤسسة الحكم القائم في سوريا، وتنامي الضغوط الخارجية عليها من أجل التنحي، وحيال عدم توصل المعارضة إلى برنامج عمل استراتيجي واضح موحد، يؤهلها للتفرد بقيادة “الحالة السورية”، ويقطع الطريق على الآخرين من أمثال رفعت الأسد، تنفتح الأبواب على مصراعيها أمام مثل تلك القوى، التي ستعتمد في تخطيطها للعودة إلى الحكم، على مستجدين أساسيين يسودان الساحة السورية: حالة التململ المعبر عن يأس بدأت تسود الشارع السياسي، الذي قدم الآلاف من الشهداء، وعشرات الآلاف الأخرى من الضحايا، دون أن يحقق تقدماً ملموساً على المستوى السياسي، يمده بالأمل، ويزوده بالقدرة على مواصلة التضحية. أما الثاني، فهو التدخل الخارجي العربي والدولي، الباحث عن حليف داخلي، قادر على حسم الأمور في أقصر وقت ممكن، وبأقل قدر من التضحيات. فضياع الوقت، وتأجيل الحسم، لم يعودا في صالح مشروعات إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط الجديدة. مراهنات الحرس القديم تستمد عناصر قوتها من كون سوريا ساحة مختلفة نوعياً وجذرياً عن ساحات عربية أخرى، ليبيا كانت هذه الساحة، أم حتى مصر، وهو عنصر مهم في تهيئها للتمكن من البروز، وتقدم الصفوف، بعد أن تنجح في إزاحة القوى الأخرى من طريقها، سواء تلك التي في الحكم، أم الأخرى التي ماتزال تناضل في الشارع.