أظهر تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية ومقره العاصمة البريطانية لندن أن الأزمة الأوكرانية ستخلق خارطة جديدة للطاقة في العالم تتضح معالمها ما بعد العام 2018.
وأوضح التقرير أن توجه أوروبا نحو تنويع مصادر الطاقة بعيداً عن الاعتماد على الغاز الروسي سيؤدي إلى خطوط إمداد جديدة للنفط والغاز وتغيرات كبرى في سياسات الدول لا سيما تلك المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فأوروبا التي تدرك جيداً خطورة الاعتماد بشكل كبير على الغاز الروسي تسعى إلى تقليص النفوذ الروسي في سوق الغاز و تهميشه تدريجيا.
وبحسب التقرير تعول أوروبا في الدرجة الأولى على ثورة الغاز الصخري سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية. وتمتلك أوروبا احتياطيات كبيرة من الغاز الصخري تبلغ 12 تريليون متر مكعب إلا أن استخراج تلك الكميات يحتاج لخمس سنوات على الأقل لأنه يتطلب قوانين، وضمانات للبيئة، وبنى تحتية وشبكات أنابيب وتدريب كوادر بشرية وتقنيات تكلف على الأقل 308 مليارات دولار.
وعلى الرغم من زيادة وتيرة رخص تصدير الغاز المسال من الولايات المتحدة إلا أنها تعاني من مشاكل أبرزها قلة عدد الموانئ والمخازن، والأرصفة الخاصة بتصدير الغاز، وقد لا يتم إنجازها قبل العام 2017.
كما تحاول الولايات المتحدة دعم الصناعات البتروكيماوية، خاصة وأنها استثمرت في ذلك القطاع مبلغ 125 مليار دولار لذا فإن زيادة الرخص يعرض تلك الاستثمارات للمخاطرة.
وبحسب تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية فإن زيادة الطلب في آسيا إلى 70% من سوق الغاز الطبيعي المسال يجعل الأسعار في آسيا أفضل مما هي عليه في أوروبا. فالسعر في آسيا هو 18 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية في حين أنه في أوروبا 10 دولارات فقط.
ويوضح التقرير أن معظم الشركات الأميركية ترتبط بعقود طويلة الأجل مع آسيا ما يعني أن إدارة الرئيس أوباما قد تضطر إلى تعويض تلك الشركات في حال تحويل تلك العقود باتجاه أوروبا. وقد يجد المشرع الأميركي نفسه مضطراً لذلك خاصة و أن أحداث أوكرانيا اعتبرت تهديداً للأمن القومي الأميركي و بالتالي فقد يتم تسريع إصدار رخص تصدير الغاز لأوروبا.
بدائل أوروبا
تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية أشار إلى وجود خيارات أخرى لأوروبا وهي زيادة وارداتها من الغاز من شمال وغرب إفريقيا و التي وصلت في العام 2010 إلى 143 مليار متر مكعب ويتوقع أن تزداد في العام 2020 إلى قرابة 196 مليار متر مكعب.
كما تعمل أوروبا على الاستفادة من الغاز الوارد من حقل شاه دنيز 2 في أذربيجان والذي سيكون جاهزاً في العام 2018 لنقل 10 مليارات متر مكعب سنوياُ، إلا أن تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية يشير إلى أن الغاز الأذربيجاني لا يكفي لسد حاجة أوروبا لذا تظهر الحاجة إلى غاز من مصادر أخرى يزيد من درجة الضخ في ذلك الأنبوب ويتجاوز عقبة محطات الضغط المحدودة. وبحسب المركز العالمي للدراسات التنموية فإن محاولات تجري اليوم للاستفادة من الغاز العراقي سواء عبر إقليم كردستان مروراً بتركيا أو عبر موانئ البصرة من خلال الناقلات.
ويتوقع أن تتجاوز كميات الغاز المصدرة من العراق الـ 15 مليار متر مكعب سنوياً لتزداد لاحقاً بحسب قدرة البنى التحتية على مواكبة الطلب المتزايد وبناء المنصات العائمة.
إلا أن تقرير المركز يوضح أن العراق يخسر يومياً ما قيمته 80 مليون دولار من الغاز جراء عمليات الاحتراق التي لا يستفاد منها، بالإضافة إلى الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل حول تصدير النفط وضعف البنى التحتية التي لن تكون قادرة على تصدير الغاز قبل العام 2018.
أما بالنسبة للغاز الإيراني فإن أوروبا لا تفكر فيه كخيار موثوق، على الرغم من أن إنتاج إيران من الغاز قد يصل إلى 120 مليار متر مكعب في السنة، وذلك بسبب الخلافات حول برنامج طهران النووي وملفات سياسية كثيرة عالقة.
ويوضح تقرير المركز العالمي إلى وجود أفكار حول تصدير الغاز من حقل تامار (90 كيلومتراً من سواحل حيفا) عبر أنبوب يمتد إلى عمق 150 كيلومتراً تحت سطح البحر المتوسط و ذلك لنقل 11 مليار متر مكعب سنوياً إلى أوروبا. لكن هذا المشروع ما زال يصطدم بمشكلة النزاع التركي اليوناني حول جزيرة قبرص واتفاق الجانبين بالإضافة لاتفاق مع سوريا ولبنان حول بعض حقول الغاز البحرية المشتركة.
وفي الوقت الذي تنوي قطر زيادة صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا بنسبة 22% و ذلك بتصدير 6.64 مليون طن متري فإن هذا الرقم لن يكون متاحاً قبل العام 2018.
ويبقى خيار استيراد الغاز من أستراليا التي يتوقع أن تصبح أكبر منتج للغاز المسال في العالم في العام 2020.
وتقوم استراليا بتطوير مشاريع تقدر قيمتها بـ 190 مليار دولار لكنها في الغالب لن تكون جاهزة إلا في مطلع العام 2018. كما أن ارتفاع الطلب الآسيوي قد يحول سوق الغاز الاسترالي بعيداً عن الأسواق الأوروبية.
تغير محتمل في السياسة الأوروبية
ويرى تقرير المركز العالمي للدراسات التنموية أن أوروبا ستعمل على تغيير سياساتها انطلاقاً من أزمة الغاز التي تعيشها واستناداً إلى استراتيجية طويلة الأمد تعتمد على تعزيز مصادر الطاقة المحلية، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية لكتها في نفس الوقت ستكون مضطرة لحل بعض المشكلات الإقليمية لتسهيل حصولها على الطاقة مستقبلاً. فأمن إفريقيا وبخاصة في ليبيا ومصر، ووسط إفريقيا و حل النزاع التركي القبرصي، والأزمة بين بغداد وأربيل في العراق والاهتمام بالمشكلة الفلسطينية ستكون في أولى اهتمامات الأوروبيين خاصة، وأن تلك المناطق تعتبر مصادر مهمةً للغاز والنفط.
حسابات موسكو
ويأتي هذا الاهتمام الأوروبي في ظل استراتيجية روسية جديدة بالتوسع في تصدير الغاز باتجاه الشرق و تقليص كميات التصدير غرباً أو رفع الأسعار. لكن موسكو لا يمكنها الاعتماد على الصين في تعويض إيرادات الغاز لأوروبا خاصة وأن بيع الغاز للصين سيتم وفق أسعار منخفضة ما يعني تعزيزاً لنمو الاقتصاد الصيني، وزيادة في قدرتها على منافسة روسيا في المجالات الأخرى. بالإضافة لذلك فإن الصين بدأت أيضاً باستخراج الغاز الصخري من حقل "فولين" وذلك على الرغم من الكلفة العالية حيث يتوقع أن تتمكن من استخراج 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي في حين أن احتياطاتها من الغاز تقدر بـ 2.1 تريليون متر مكعب.
كما تبحث روسيا عن أسواق جديدة لغازها في دول أسيوية أخرى كالهند وكوريا الجنوبية، وحتى دول نفطية كدولة الكويت. كما أن الشركات الروسية تخطط للتوسع في تلك الأسواق وبالذات في العراق وإفريقيا لأن ذلك يمنحها قوة اقتصادية وسياسية يجعلها أكثر مرونة في قراراتها السياسية.
فرص استثمارية في قطاع الطاقة
ويمضي تقرير المركز العالمي للدراسات بالقول إن أزمة أوكرانيا ستغير ملامح سوق الطاقة العالمي وسوف تخلق فرصاً استثمارية جديدة للشركات والصناديق السيادية وبخاصة الخليجية منها. فأوروبا التي تحتاج إلى أكثر من 300 مليار دولار لتعزيز بناها التحتية في مجال الغاز سوف تكون فرصة مغرية لا سيما مع ازدياد الطلب الأوروبي على الغاز سنوياً بمعدل 200 مليار متر مكعب.