تأتي زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى المقررة لدولة كازاخستان اليوم في وقتها تماماً، خاصة أنها تعكس المسعى البحريني الجاد لتوطيد علاقاتها بدول آسيا باعتبارها محيطها الأقرب والأكثر قدرة على تزويد البحرين بما تحتاجه من موارد ومصادر لدعم برامج وخطط التنمية التي شرعت فيها منذ فترة كبيرة.
وإضافة إلى أن الزيارة تؤكد مضي المملكة قدما لتوسيع شبكة تفاعلاتها مع أقطاب النمو الجديد في آسيا، سيما الإسلامية منها، فإنها تفتح المجال لمزيد من الفرص للقطاع الخاص الوطني كي يقوم بدوره في دعم عجلة النمو، كما تفتح أبواب التعاون مع الدول ذات الميزات الإنتاجية والتنافسية الكبيرة، خاصة أن كازاخستان تتمتع بفرص استثمارية واسعة يمكن أن تفيد البحرين وتسهم في تطوير تجربتها الاقتصادية، كذلك فإن الزيارة تأتي ضمن سلسلة من الزيارات الرسمية التي قام بها جلالة العاهل المفدى في غضون الفترة السابقة، واستهدفت تمتين علاقات المملكة بدول الجوار الآسيوي، القريب والبعيد، والاستفادة من النجاحات التي حققتها تلك الدول في مجال تنمية مواردها وضمان مسيرة اكتفائها الذاتي، سيما في مجال إنتاج الحبوب والغذاء وغير ذلك.
الحرص المشترك على دعم العلاقات
ولا شك أن وضع كازاخستان ضمن برامج زيارات جلالة العاهل المفدى العديدة، الهدف منه ليس فقط تعزيز علاقات الصداقة وتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات بينها وبين البحرين، وإنما استكمال ما شرعت فيه قيادات البلدين منذ ما قبل إقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء في مايو 1992 وحتى الآن، حيث بدا الحرص المشترك على دعم مسار العلاقات لتشمل كافة القطاعات، وتجلت ملامحها الأولى عقب الزيارة الرسمية للرئيس الكازاخستاني نازارباييف إلى المملكة عام 1997، والتي اعتُبرت تجسيداً لرغبة البلدين المشتركة في تمتين علاقاتهما، والتي ستُتوج بالتأكيد مع زيارة العاهل المفدى في الأيام المقبلة.
يلاحظ هنا أن رغبة وإصرار الدولتين على إيجاد أرضية ثابتة يمكن البناء عليها والانطلاق منها لتطوير العلاقات الثنائية، تنبع من تفاهم وتنسيق تام في مواقف الدولتين إزاء القضايا الإقليمية والعالمية، حيث يعتمد البلدان في مواقفهما الثابتة والمشتركة نهجاً قوامه الاحترام المتبادل وضمان السيادة والسلامة الإقليمية لكلا البلدين وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، كما إنهما يتبنيان وجهة نظر واحدة إزاء عدد من القضايا التي تشكل تحدياً لأمنهما القومي من قبيل ضرورة محاربة الإرهاب بكل صوره وإقرار السلامين والأمنين الإقليمي والدولي وغير ذلك من قضايا مهمة.
وتبدو هذه المعاني واضحة بالنظر إلى عاملين أحدهما يتعلق بـ: تسارع وتيرة الزيارات والاتصالات المتبادلة بين مسؤولي البلدين خلال السنتين الأخيرتين، ومن ذلك زيارة معالي الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة وزير الخارجية إلى جمهورية كازاخستان للمشاركة في اجتماع مجلس وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الـ38 في يونيو 2011، وترشيح السيد عبدالله سيف المستشار بمجلس الوزراء لتلبية دعوة الرئيس الكازاخستاني لصاحب السمو الملكي الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة لزيارة جمهورية كازاخســـتان في يونيو من نفس العام..
هذا بالإضافة إلى زيارة وفد الشركة الكازاخستانية القابضة «بابتيرك» في مارس 2014 الماضي للتحضير لزيارة جلالة العاهل المفدى، وكان هذا الوفد قد اجتمع مع مستشار صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية, علاوة على زيارة نائب وزير خارجية جمهورية كازخستان للمشاركة في الاجتماع الوزاري الـ 12 لحوار التعاون الآسيوي الذي استضافته المنامة في شهر نوفمبر 2013.
العامل الآخر يتعلق بالجهود الجادة والعمل الدؤوب الذي تبذله الدولتان لإزالة أية عقبات تواجه عملية التطوير الجارية لملف العلاقات المشتركة، ولعل الاجتماع الأخير الذي عقده معالي وزير الصناعة والتجارة مع عدد من رجال المال والأعمال بالمملكة وبحضور رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية يؤكد هذا المعنى، حيث استعرض المجتمعون العلاقات القائمة بين المملكة وكازاخستان وسبل تعزيزها وتطويرها بما يصب في مصلحة البلدين، وبالأخص منها العلاقات الاقتصادية التي يمكن أن تشمل جميع المجالات الاقتصادية والاستثمارية.
ملف التعاون الاقتصادي بين البلدين
يشار هنا إلى أن هذا الاجتماع يُعول عليه كثيراً، وذلك لأنه عُد بمثابة اجتماع تحضيري للزيارة السامية المرتقبة، خاصة في الشق الاقتصادي منها الذي يحظى باهتمام ملكي كبير تجلى في زيارات العاهل المفدى جميعها، وذلك بالنظر إلى حجم ومستوى الوفود الاقتصادية التي رافقت سموه خلال زياراته.
كما إن هذا الاجتماع لم يكن الوحيد على هذا المستوى، بل سبقه العديد من الاجتماعات التمهيدية والتنسيقية الأخرى، والتي تكشف نية البلدين وعزمهما على إيلاء الملف الاقتصادي الأهمية والعناية التي يستحقها، ومن ذلك استقبال وزير الصناعة والتجارة في مارس الماضي سفير ومفوض جمهورية كازاخستان في المملكة السعودية، واجتماع وزير الدولة للشؤون الخارجية مع نائب وزير الخارجية في جمهورية كازاخستان على هامش أعمال الاجتماع الوزاري الثاني عشر لحوار التعاون الآسيوي الذي استضافته المملكة في نوفمبر من العام الماضي.
هذا بالإضافة إلى منح رئيس كازاخستان مستشار صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ميدالية تذكارية لجهوده الطيبة في إرساء أسس متينة للتعاون بين البلدين، فضلاً عن استقبال صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء لسفير كازاخستان لدى المملكة في فترة سابقة.
مستقبل تطور العلاقات الثنائية
وهنا تبدو أهمية التأكيد على عدة أمور تدفع في اتجاه تطوير العلاقات بين البلدين، سيما على الصعيد الاقتصادي، أولها: حرص القيادة الرشيدة على تطوير علاقات المملكة بكل دول العالم، خاصة تلك التي تعزز من وضعيتها الاقتصادية وتسهم في تطوير تجربتها التنموية وتلبية احتياجاتها، وهذا ما أشار إليه وزير الصناعة والتجارة في تصريح أخير له أكد فيه ضرورة النظر في كل الفرص المتاحة لتعزيز الواقع الاقتصادي بما يشمله ذلك من اجتذاب رساميل أجنبية وتوطين المشاريع المختلفة وتوسيع قاعدة الاقتصاد واستكمال منظومة الأمن الغذائي التي تضعها الحكومة في قمة الأولويات.
ثانيها: أنه لا توجد لجنة تأطيرية مشتركة تنظم العلاقات بين البحرين وكازاخستان، ومع تسارع وتيرة الاتصالات والزيارات بين مسؤولي البلدين خلال الفترة الأخيرة، فإن هناك ضرورة تدفع لتنظيم مسارات التعاون الثنائي ودعم هذا التوجه، كما إنه لا توجد سوى مذكرة تفاهم واحدة موقعة بين البلدين لتطوير علاقاتهما الدبلوماسية، الأمر الذي يفرض الحاجة والعمل معاً من أجل إيجاد مزيد من الأطر التنظيمية لتمتين أواصر العلاقات المشتركة وبما يضمن لقادة المال والأعمال في البلدين قيادة قاطرة العلاقات الثنائية في المستقبل.
ثالثها: ما تحظى به كازاخستان من ثقل ومكانة على أكثر من صعيد، فهي من جهة على علاقة وطيدة بكل دول الخليج العربية، وتسعى دول مجلس التعاون لدعم العلاقات فيما بينهما، من ذلك: توقيع المملكة السعودية وكازاخستان في إبريل من العام الماضي بروتوكول الاتفاق الثنائي في إطار متطلبات انضمام الأخيرة لمنظمة التجارة العالمية، والتفاعلات الدائرة بين مسؤولي دول الخليج العربية وكازاخستان، والتي تعكس رغبة في توطيد العلاقات من قبيل زيارة الرئيس الكازاخستاني للإمارات في مطلع العام الماضي، واستقبال رئيس وزراء كازاخستان لوزير الدولة للشؤون الخارجية العماني في يونيو 2011، وغير ذلك الكثير مما يعطي زخماً للعلاقات بين البحرين وكازاخستان باعتبار المملكة بوابة بين دول الخليج العربية والعالم الخارجي.
ومن جهة ثانية، فإن كازاخستان لها دور محوري في آسيا الوسطى، وذلك استناداً إلى عدة عوامل جيوسياسية واستراتيجية، منها: تجربتها الديمقراطية الوليدة التي تتشابه تقريباً مع التجربة البحرينية في حداثتها النسبية وتطورها السريع، على اعتبار أن كازاخستان من الدول التي أعلنت استقلالها عام 1991 عقب تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وورثت تركة كبيرة من ميراثه، حيث المساحة الضخمة وعدد السكان، فضلاً عن الموارد اللوجستية سواء في مجال التسليح والدفاع أو في قطاع الفضاء، كما إنها من الدول الرئيسة الغنية بالنفط والغاز والموارد المعدنية والزراعية، وعضو فاعل بعدد من المنظمات الأمنية الرئيسة بالمنطقة التي توصف بأنها من عوامل الاستقرار في العلاقات الإقليمية والدولية المعاصرة، كمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة، ويضم عدداً كبيراً من الدول الآسيوية، فضلاً عن المراقبين، ومنهم بعض الدول الخليجية والعربية.
ومن جهة أخيرة، فإن كازاخستان تمثل عمقاً حضارياً كبيراً، ولا يمكن لأحد أن يغض الطرف عن أثره في مجال التحاور بين أصحاب الأديان استناداً لإرثها ولعلاقاتها ولموقعها التاريخي والديني والثقافي المعروف، الذي يرتبط بوشائج كبيرة مع كبريات دول العالم الإسلامي، فضلاً عن الغربي، وهي كلها عوامل ستعطي بلا شك زخماً كبيراً للزيارة المرتقبة للعاهل المفدى وللعلاقات المتوقع أن تتطور بين البحرين وكازاخستان في المستقبل.