قالت المدير الإداري لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين أتباع الديانات والثقافات في فيينا د.آلاء نصيف إن صموئيل هنتنجتون في كتابه الشهير «صدام الحضارات» خلق انقلابا مفاهيميا حول مفهوم الحضارة، مشيرة إلى أنه انقلاب كامل على الأصل، أي رفض لما يجمع لحساب ما يفرق، فعوضا عن أن تكون الحضارة «معينا إنسانيا واحدا» يلجأ إليه المجموع البشري، يقدم لنا رؤية تشريحية لأجزاء إنسانية متصارعة إلى حد الامتثال والاشتباك الملح.
وأشارت د.آلاء نصيف، في ورقتها «دور الحضارات الإنسانية في تعزيز وحدة المجتمع البشري» المقدمة ضمن أعمال الجلسة الأولى برئاسة د.عبدالله العبيد من مؤتمر حوار الحضارات والثقافات أمس في مركز الخليج للمؤتمرات بالمنامة، إلى أن هذا الحديث يأتي في إطار قضية الحضارات الإنسانية ضمن أهم الإشكاليات الحديثة التي واجهت ولا تزال تواجه الإنسانية منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، لهذا كانت متوالية السؤال، متسائلة هل هذه الحضارات هي حضارة واحدة، أم حضارات متباينة؟ هل صراع الحضارات كما قرر البعض أمر حتمي لا مناص منه؟.
هذه الأسئلة كما ترى د.نصيف باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي أذكت «وهم» صدام الحضارات، لاسيما بين طرفين أساسيين حول الكرة الأرضية، العالم الغربي، والعالم العربي، وجوازا العالم المسيحي اليهودي، في مواجهة الإسلامي.
وأشارت إلى أن هذا الإلحاح على استحضار فكرة صراع الحضارات الحتمي لم يكن وليد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فقط، فالقرن الماضي مثقل بتركة الاستعمار الغربي للبلدان الإسلامية وغير الإسلامية وما خلفه هذا الاستعمار من اضطهاد للآخر، أضف إلى ذلك ما أظهرته البلدان الاستعمارية من استغلال وفوقية تجاه الشعوب المحتلة وما خلفه ذلك من رد فعل لدى تلك الشعوب باستحضارها تلك الحقبة كدليل واضح على حتمية النظر إلى العلاقة مع الحضارة الغربية من منظور صراع الحضارات الحتمي والدائم.
عشرات الحضارات سادت ثم بادت
واستحضرت د.آلاء نصيف تلك المقابلة التي خلقها «هنتنجتون» ينحصر الوعاء الإنساني الحضاري في طرفي نقيض، لتنتهي بأنه أمر لا يستقيم فهناك عشرات الحضارات التي سادت ثم بادت، ومنها ما هو كائن في الحال، وعرضة للاضمحلال في الاستقبال، وبينها كذلك ما هو خارج دائرة تنويعات هنتنجتون القريبة من العنصرية، وفي كل الأحوال يبقي التساؤل الأول الذي لابد منه: ما هي الحضارة؟ ماذا تعني؟ وكيف لنا أن نعرفها؟
بعدها تحدثت د.نصيف عن تلك التعددية العلمية والأكاديمية التي يمكن لها أن تصوغ تعريف «الحضارة»، إلا أنها جاءت باستدراك مفاده أن المعنى والمبنى يكاد يتشابه فيها جميعا، فهي نتاج الشعوب التي وعت دورها، ومن ثم قامت بأدائه وفق المقومات التي تمتلكها، معتبرة أن من أدى الواجبات نال الحقوق، وأن الأمر لابد له من فترة حضانة، وللحضارة على هذا الأساس مكونان أساسيان: الإدارة الحضارية التي تعني المبررات عند الإنسان، والإمكان الحضاري المتمثل بالعلوم والفنون والتكنولوجيا.
وأشارت إلى أن كلمة «الحضارة» هذه قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بالكاتب والمفكر الأمريكي الشهير «وول ديورانت» صاحب الموسوعة الأشهر في عالم المؤلفات الإنسانية: «قصة الحضارة» وفي كتابه «أبطال من التاريخ… مختصر قصة الحضارة»، نجده يقدم لنا رؤية خاصة للحضارة، فالتاريخ الإنساني عنده ما هو إلا شذرة من علم البيولوجيا، والإنسان ليس إلا واحدا من ملايين الأنواع الحية، وهي كلها عرضة للصراع من أجل الوجود، ويحكمها التنافس بين الأكفاء من أجل البقاء.
الانقلاب المفاهيمي
أوردت د.آلاء نصيف جملة من الأمثلة على الانقلاب المفاهيمي حول مفهوم الحضارة الذي خلقه هنتغتون، حيث قالت «تقوم فرضية هنتنجتون على أن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد، لن يكون بالدرجة الأولى بسبب إيديولوجي أو اقتصادي، بل إن الانقسام الأكبر سيكون بسبب الحضارة، وستظل الدولة القومية Nation state هي اللاعب الأقوى على مسرح الشؤون الدولية، غير أن الصراعات الرئيسية في السياسة الدولية ستنشب بين الدول وبين مجموعة دول تنتمي لحضارات مختلفة».
وأضافت «ستكون حدود التوتر الفاصلة بين تلك الحضارات المختلفة هي ذاتها خطوط المعارك في المستقبل. إن الصراع بين الحضارات المختلفة إن هو إلا الطور الأخير في عملية تطور النزاعات في العالم الحديث».
وأشارت إلى أنه ستكون الهوية الحضارية متزايدة الأهمية في المستقبل، وسيشكل العالم إلى حد كبير نتيجة تفاعلات بين سبع أو ثمان حضارات رئيسية تشمل الحضارة الغـــربيـــة، الإسلاميـــة، الكنوفوشيوسيـة اليابــــانيـــة، الهنـــديـــة، السلافيـــة، الأرثوذكسية، الأمريكية اللاتينية، وربما الحضارة الإفريقية. أما الصراعات الأهم التي ستنشب في المستقبل، فإن حدودها ستكون حدود التوتر الحضاري التي تفصل بين هذه الحضارات الواحدة عن الأخرى.
وقالت «من أشرس العبارات والمفاهيم التي جاءت في نظرية هنتنجتون تلك المتعلقة بعلاقة العالم الغربي بالإسلام وعنده على سبيل المثال: أن المجابهة القادمة مع الغرب ستبدأ من جانب العالم الإسلامي كما يقول المؤلف الهندي المسلم «م. ج. أكبر» وأن النضال من أجل نظام عالمي جديد سيتحقق بتحرك شامل للدول الإسلامية من المغرب إلى باكستان.
وتساءلت «هل آمن الغرب كله أو جله بما قاله هنتنجتون من حتمية صراع الحضارات أم أن هناك من خالفه ومضى في طريق السعي إلى تأكيد أن الحضارات وجدت لتأكيد تعايش الشعوب والثقافات والتقائها، وخدمة بعضها البعض في شرق المسكونة وغربها؟».
موللر وتعايش الثقافات
وعن الحضارة في خدمة الإنسانية ومنطق التعايش فيما بين البشر كافة، وضعت د.آلاء نصيف مشروع الفيلسوف الألماني «هارالد موللر» عبر كتابه «تعايش الثقافات» الذي يؤكد خلاله إمكانية بل حتمية تعايش الحضارات المشتركة، وتسخيرها جميعا من أجل الصالح الإنساني العام، ووحدة الجنس البشري، قبالة مشروع هنتنغتون.
ووضعت سؤال موللر كمدخل لخلق حالة تفكيك تلك الأطروحة: ما العمل؟ وكيف يمكننا التوصل إلى جعل دواعي الارتباط والتعاون بين أبناء الحضارات المختلفة – إن قبلنا جوازا بالفكرة ذاتها – أكثر قوة من أسباب الفرقة؟
فما هي الخطوات الضرورية لتعزيز السلام في مقابل النزاعات العنيفة في وقت يصبح فيه عدد متزايد من الناس أقل شعورا بالأمن، وقد غيرت الظروف الخارجية مجرى حياتهم وباتوا بذلك أيضا مهيئين للعنف! يقدم لنا موللر الألماني جوابا على ثلاثة أصعدة في سياق انتظام الجنس البشري في مصفوفة واحدة تقود إلى تمتين الروابط الإنسانية، لا تمزيقها، وهي الدولة، والاقتصاد، والمجتمع.
المبدأ الحاسم فيما يتعلق بعالم الدول هو أن أي لاعب مهم لم يخرج نفسه بنفسه من شراكة الشعوب من خلال حرب عدوانية أو جرائم في حق الشعوب لا ينبغي له أن يشعر بالخوف. إن بناء الثقة أكثر أهمية من الردع، علما أنه لا يمكن التنازل عن هذا الأخير في مواجهة مخلين محتملين بالسلام.
ويطالب موللر في مواجهة الدعوات العنصرية الغربية من قبل البعض الساعية لعزل بعض من دول العالم الإسلامي بدعم تضامني للدول التي تبذل مجتمعاتها جهودا في تحديث رؤاها الآنية ومشروعاتها المستقبلية، وفي استدخال مبادئ من الثقافة السياسية الغربية مهما كانت غير متصفة بالكمال.
أما فيما يخص الجانب الاقتصادي فيوصي موللر بدعم أقطار العالم الإسلامي التي قطعت شوطا في الإصلاح الاقتصادي، الأمر الذي يضمن رفاهية شعوبها، ويضمن انفتاحا تجاريّا واقفا مع الغرب والشرق، ويقلل من فرص ظهور حركات التطرف النابعة من الفقر والبطالة والفساد.
يذكر أن مؤتمر حوار الحضارات والثقافات الذي تستضيفه البحرين جاء بمبادرة سامية ورعاية كريمة من لدن عاهل البلاد المفدى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وانطلقت أعماله صباح أمس ويستمر حتى يوم الأربعاء المقبل بمشاركة 150 مفكرا من نخبة رجالات الفكر والثقافة وممثلي الأديان والعقائد وممثلي المنظمات الدولية من مختلف دول العالم.