أكد المنتدون في اليوم الثاني لجلسات مؤتمر حوار الحضارات والثقافات، أن المؤتمر الذي يرعاه العاهل، يتجاوز مصطلح «التعايش» إلى الاهتمام الأخلاقي للاختلاف، لافتين إلى أن التعارف على قاعدة الاختلافات والتباينات هو بمثابة استجابة لدعوة إلهية. وأوضح المنتدون أن مصطلح الحوار المتداول أكثره إعلامي لا يؤدي لنتيجة عملية، محذرين من أن المتطرف يلعب دوراً رئيساً في تنامي ظاهرة العنف لإغلاقه منافذ المعرفة.
ودعا المنتدون لمراجعة أساليب التدريس الديني ومناقشة الهوية الدينية كنظام، مبينين أن دور التعليم الديني يتمثل في تقدير كرامة الناس بصرف النظر عن هويتهم، إضافة لإقرار مادة «علم الأخلاق والسلوك» في مناهج التربية، حيث إن المشترك بين الكتب والرسالات سيادة الحق والعدل بين الناس.
وأكد المشاركون أن الشرائع السماوية تدعو للقاء الحضارات وتعاونها لا الصدام بينها، كما إن التنوع الحضاري والتعدد الثقافي يحتمان تبادل الاحترام عبر المعرفة، داعين المجتمع الدولي لأن يفرق بين أصحاب الفكر المتطرف والمجاهدين.
وأعرب المنتدون عن شكرهم حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، على مبادرة جلالته بالدعوة إلى حوار الحضارات والثقافات.
وقالت الأمين السابق للعلاقات الخارجية بالمجلس العالمي للكنائس أستاذة الديانات العالمية السيدة تيني بيري سيمونيان، عبر ورقة «التعليم الديني ودوره في تعزيز التعايش بين جميع الناس»، إن الدين والتعليم عاملان مهمان في بناء السلام وتعزيز العلاقات الطبية بين الناس، مستعرضاً النظريات الحديثة التي تساعد على فهم السياقات المحلية والوطنية والعالمية التي ينبغي أن يتم فيها مناقشة أساليب التعليم والتعلم والتخطيط لها لتعزيز التعايش بين الناس.
ورفضت تيني بيري استخدام مصطلح «التعايش»؛ عازية ذلك إلى أن هذا المصطلح كان يقصد به تاريخياً «عش ودع غيرك يعيش»، مؤكدة أن هذا المؤتمر يتجاوز تلك الصيغة المبتذلة بحسب وصفه إلى الاهتمام الأخلاقي للاختلاف وتشجيع العيش سوياً على أساس الاحترام المتبادل لبناء ثقافة السلام القائمة على التنوع.
وأشارت إلى أن مفاهيم الديمقراطية والتعددية الدينية والعولمة صاغت منذ منتصف القرن العشرين القضايا المتعلقة بالعلاقات العامة والأخلاقيات وتحليل الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لافتة إلى أن هذه التغييرات الأساسية في طبيعة النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية في العالم والتجانس على المستوى العالمي والتعددية على المستويات المحلية والإقليمية والوطنية تحدث ضمن إطار الديمقراطية حيث تكون سيادة القانون والمساواة والمشاركة والمواطنة هي الأساس.
وأكدت أن دور التعليم الديني هو إعداد الناس خاصة الجيل الشاب لتعلم عقيدتهم وفهم التحديات التي تواجه دينهم كنظام اجتماعي والاستجابة على نحو مناسب، مشيرة إلى أن الاستجابات تتباين ضمن سياقات اجتماعية سياسية محددة، مستدركاً أن مسؤولية القادة الدينيين والمعاهد الدينية هي إعداد الناس للمواطنة العالمية.
الأفعال المأساوية
وشددت على أنه ينبغي أن يرد التعلم الديني على الأفعال المأساوية التي يتم تنفيذها باسم الدين وأن يسلط الضوء على التجربة الإيجابية للعيش سوياً تاريخياً، وأن يقترح نماذج للعلاقة بين الناس من أصول دينية مختلفة ضمن المجتمعات، مؤكدة أن هذه الممارسة تفترض مراجعة أساليب التدريس في التعليم الديني، منبهاً إلى ضرورة مناقشة الهوية الدينية والدين كنظام.
وفي ما يخص إدارة الخلافات الدينية اليوم، عالجت تيني بيري هذه المسألة باستخدام المفاهيم المقترحة من كوام أنتوني آبياه أستاذ الفلسفة والقانون بجامعة نيويورك من حيث كون الدين هوية اجتماعية، وباعتباره متكاملاً نفسياً، ومن حيث كون بعض الخلافات الدينية المنطقية.
وتساءلت بيري: «من أنا؟ من نحن؟ من أنت؟»، مؤكدة أن هذه الأسئلة تساعد الأفراد في تحديد أنفسهم في ما يتعلق بانتماءاتهم الخاصة وفي علاقاتهم مع الغير. كما إنها تساعدهم في فهم الطبيعة متعددة الأبعاد للعضوية والسلوك، لافتة إلى أن مسألة العرق والنوع الاجتماعي والدين التي تحدد هوية الشخص مسألة لا يد للإنسان فيها تلازمه منذ لحظة ولادته، مشيرة إلى أن اكتساب جميع الهويات الأخرى يتم نتيجة للأدوار والوظائف التي يمارسها الناس والمؤسسات التي تحدد أنظمتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والاجتماعية متعددة الأبعاد. ودعت إلى توعية الطلاب بأنه عندما تصبح الهوية معياراً لتحديد الشخص، مؤكدة أن دور التعليم الديني يكمن في تقدير كرامة جميع الناس بصرف النظر عن هويتهم، متسائلةً: «كيف يمكن للتعليم الديني إدارة مسائل الهوية بالتناغم مع رؤية التنوع والتعددية»؟ وفي معرض إجابتها، قالت: «يمكن أن تصبح الهوية الدينية قوة جبارة في حالات الأزمات مثل أن سعي عمال الإغاثة وراء التضامن الديني لجمع الموارد المالية والمادية لتقديم المساعدة الإنسانية»، مضيفة: «لتجنب جعل الهوية الدينية مسألة سياسية في مثل هذه المواقف يجب أن يؤكد المعلمون الدينيون بأنه يجب أن تتم معاملة كل الناس الفقراء والمحتاجين بعطف واحترام بصرف النظر عن توجهاتهم الدينية».
وأشارت إلى أن العولمة تمثل تغييراً لدور الأديان العالمية، مؤكداً أن الأديان لم تعد هي الحكم الأخلاقي الرئيس لأن مجتمع الشبكات الجديد يصنع صراعاً بين الأديان والتفتت الداخلي بين الأديان.
خطاب الكراهية
بدوره دعا مفتي الجمهورية اللبنانية د.محمد قباني دول العالم إلى إقرار مادة «علم الأخلاق والسلوك» في مناهج التربية في جميع مراحل التعليم، في المدارس والجامعات، وتقديم الجوائز لأفضل الأبحاث في ذلك، وشهادات حسن السلوك، وتخريج أساتذةٍ متخصصين في «علم الأخلاق والسلوك» وفي الرسائل الجامعية لنيل الشهادات العليا والاختصاص، معتبراً هذه الخطوة بداية التغيير نحو الإنسان الأفضل لعالم أكثر أماناً واستقراراً في هذا العالم.
وتساءل «هل يوجد مثل هؤلاء المتخصصين اليوم في «علم الأخلاق والسلوك» في أمتنا ودولنا، بل وفي دول العالم إلى درجة الكفاية؟ وكم يا ترى يوجد؟ وهل إلى درجة الكفاية للتعليم في المدارس والجامعات في هذه المادة الخطرة جداً؟!».
وأوضح قباني في بحثه الذي قدمه في المؤتمر بعنوان «خطاب الكراهية وأثره على أتباع الحضارات» أن «المشترك بين الكتب والرسالات كلها بعد الإيمان واليقين بالله، هو سيادة الحق والعدل ومكارم الأخلاق بين الناس على الأرض، على اختلافهم وتنوعهم في كل عصرٍ وزمن».
وأشار إلى أن «النموذج الأول للاختلاف والصراع بدأ بمقولة إبليس في حق الإنسان الأول آدم عليه السلام: «أنا خيرٌ منه»؛ أي من الآخر». مضيفاً: «انتقلت العدوى أولاً من إبليس إلى الإنسان في نفس قابيل ضد أخيه هابيل (...) ثم انتقلت العدوى أو العداوة بين البشر، ودبت الكراهية، وثـارت الأحقاد والثارات بين الناس، والحروب بين الدول، فتنابذوا وتقاتلوا، وذهب الأبرياء والضحايا، ووقع الخراب والدمار في العالم». عازياً خطاب الكراهية وإبادة الآخر وبسط النفوذ على الآخر أو استعباده أو استخدامه أو تسخيره إلى غلبة «أنا خيرٌ منه» على نفسية الإنسان.
وأشار قباني إلى أنَّ «مصطلح الحوار أصبح متداولاً على نطاقٍ واسع، وهو باتساع للحد من خطاب الكراهية»، مستدركاً: «لكنه في أكثره إعلامي ودعائي لا يفيد ولا يؤدي إلى نتيجة عملية ما لم يكن هذا الحوار تربيةً عمليةً على الأخلاق الكريمة في البيوت والمدارس والجامعات، وتنشئةً على مشاعر الأخلاق والقيم السامية التي تبعث على المحبة والتعاون وخدمة الآخر، والإفصاح بالتعامل معه عن القيم السامية التي يحملها، وإرادة الخير التي تحمله على ذلك، ليقدم الإنسان صورةً صحيحةً للآخر عن القيم التي يحملها ويتعامل بها؛ لا التعامل مع الآخر بالجشع والأنانية والشح والجفاء والفظاظة والغش والكذب والمكر والخديعة والحقد والكراهية».
التربية الأخلاقية
وأكد قباني أنَّ «أخلاق الإنسان مع أخيه الإنسان في العالم تحل مشكلة الكراهية، ولكن لن يكون هذا الحل إلا بالتربية والتنشئة والتدريب والتفهم والتفاهم والقناعة والإقناع وإذابة مؤثرات الفوارق في البيوت والمدارس والجامعات والمؤسسات والمجتمع»، لافتاً إلى أن ذلك لا يعني «الانمياع» في الآخر أو القبول بظلمه.
وأضاف: «العلة والمرض في الإنسان، وليس في التعاليم.. الخطيئة خطيئة الأشخاص وليست خطيئة الدين»، متسائلاً: «لماذا نقول الدين يفرق؟ فهل فهمنا الدين؟ أم نحن الذين لا نريد، ونفرق ولا نقبل»، مشدداً على أن «الأخلاق والتربية والتنشئة عليها ليست كلمةً تقال بلا فعلٍ ولا سلوكٍ ولا عمل»، مؤكداً أنها «عمليةٌ واسعةٌ وشاملة».
واستغرب المفتي اللبناني من اتقاد نار الكراهية في النفوس بين المسلمين مع بعضهم، ومع غير المسلمين، وبين الناس في العالم، في الوقت الذي يحدد فيه النبي محمد (ص) أن الغاية الأولى من رسالته هي الأخلاق. واستعرض قباني عدداً من النصوص الإسلامية التي تحث على المحبة وتنبذ الكراهية.
ولفت قباني إلى أن «خطاب الآخر للآخر هو من لوازم حرية التعبير»، منبهاً إلى ضرورة التصدي لخطاب الكراهية، رافضاً أن يكون ذلك حداً من حرية التعبير، موضحاً أن «السماح بخطاب الكراهية يشكل خرقاً لحقوق الإنسان الآخر، واعتداءً على كرامته».
واعتبر أن «التمييز الدقيق ما بين حرية التعبير وما هو ممنوعٌ من خطاب الكراهية ليس بالأمر السهل، ولم يتمكن القانون الدولي ولا المحاكم المختلفة من تقديم إجابةٍ محددةٍ بشأن كيفية تحقيق التوازن بين حرية التعبير وبين حماية حقوق الإنسان الآخر من التعدي».
وأشار إلى أن «خطاب الكراهية المنتشر في العالم وفي وسائل الإعلام ليس مقتصراً على الجاري بين مذاهب المسلمين، بل هو منتشرٌ على مساحة العالم في الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية والفلسفية والاقتصادية، الداخلية والخارجية، بين هذا الفريق وذاك، وبين الدول»، مضيفًا: «كما يستخدم خطاب الكراهية من قبل المرشحين في الانتخابات في توجيه الناخبين والتشهير بالمرشح الآخر أيضاً. وذكر قباني أنه قد تم تحديد معايير دولية لخطاب الكراهية، ولكن بعض المعايير لاتزال موضع جدل.
صناعة الكراهية
وقال قباني «يتسم خطاب الكراهية عادةً بالتقليل من الطرف الآخر، وغالباً ما تعتمد لغة خطاب الكراهية على التشويه والتعبيرات غير اللائقة، وتميل إلى الشقاق والنزاع على حساب الاتفاق، وإلى القسوة والخشونة على حساب اللين»، لافتاً إلى أنها «لغة صدامية لا تهدف إلى التوفيق أو التوافق، بل إلى الانتصار ولو على حساب الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية». وبين: «أخطر ما في خطاب الكراهية هو الحض على العنف، لما له من تأثيرٍ مدمرٍ على المجتمع، وزعزعة أمنه وسلامته واستقراره». وأضاف: «أصبح اليوم هناك ما يسمى بـ»صناعة الكراهية» في الحرب الباردة بين الجماعات، وبين الدول، وتدخل فيها الحرب الكلامية، والافتراء على التاريخ أو تزييفه أو تشويهه بين الجماعات المختلفة»، مشيراً إلى الكراهية إذا دخلت في مجتمعٍ تمزقه إرباً إرباً، خاصةً حروب الكراهية التي ترتكب بٍاسم الدين.
ولفت قباني إلى أن «خطاب الكراهية يشمل كل أنواع التحريض على العنف، والتشهير المسيء لسمعة الآخرين والافتراء عليهم، وإلصاق التهم بهم كذبًا ونسبتها إليهم وهم منها براء، والعبارات البذيئة بحقهم، والشتائم والقذف، والعبارات النابية والقبيحة التي تنتقص من قيمة الآخرين، والتخوين وترويج الأكاذيب». وشدد قباني على أن «خطاب الكراهية هو المنبع الأول للإرهاب وللحروب في العالم»، مشيراً إلى أن «حرية الفرد في الإسلام تنتهي مع بداية حرية الآخر»، مشدداً على أن «حرية الفرد تتوقف عند حد التعسف في ممارستها بما يؤدي إلى الإساءة للآخر»».
وأضاف: «كن كما تشاء وتختار، صاحب رأيٍ ولو مخالفٍ في الدين والسياسة والاجتماع، ولكن لماذا تكره الآخر إذا كان رأيه مخالفًا لك؟ لماذا؟ ناقش، جادل، عارض، انقض الرأي الآخر بالدليل، ولكن كما علمك الله في القرآن الكريم «بالتي هي أحسن».
الشرائع السماوية
من جانبه دعا رئيس جامعة الأزهر السابق أ.د.أحمد عمر هاشم، إلى محاربة ونبذ التطرف الفكري، مؤكداً أن التطرف الفكري انحراف عن الجادة وميل عن القصد وبعد عن الوسطية والاعتدال، وأن وراء التطرف الفكري تعصب مذهبي أو عنصري أو سياسي، مما يدفع المتطرفين إلى فهم النصوص الدينية حسب أهوائهم وأهواء قياداتهم، ولفت إلى أن أكثر أنواع التطرف خطراً ما كان متصلاً بالدين إلى درجة تكفير بعضهم بعضاً.
وأوضح هاشم عبر ورقته «التطرف الفكري وأثره في تنامي ظاهرة العنف وصدام الحضارات، أن المتطرف يلعب دوراً رئيسا في تنامي ظاهرة العنف، حيث أغلق التعصب على أصحاب هذا الفكر منافذ المعرفة الصحيحة والوسطية والاعتدال، فاستباحوا الأنفس بغير حق وحملوا السلاح على الأمة، فكان الإرهاب والعدوان، مؤكداً أن الإسلام نبذ الإرهاب إذ وضح الإسلام حرمة النفس وعقوبة من يعتدي عليها بالقتل أو حتى بالترويع، وبين أن من يقتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه أهدر حرمة النفس وحقها في الحياة، كما أن للفكر المتطرف أثره في ظاهرة صدام الحضارات لأنه يدفع إلى العصبية والعنصرية. وما كانت ظاهرة صدام الحضارات إلا بسبب الجهل بحقائق الإسلام والشرائع السماوية وما تدعو إليه من السلام والتعايش السلمي بين سائر شعوب الأرض.
لقاء الحضارات
وأوضح د.هاشم أن الشرائع السماوية تدعو إلى لقاء الحضارات وتعاونها لا إلى الصدام بينها، حيث دعا الإسلام إلى الأمن والسلام وبحيث لا تقوم حروب بين الدول والشعوب، فالبشرية جمعاء تنتمي إلى أصل واحد، وأب واحد، وأم واحدة، فلا يصح عدوان من دولة على أخرى بل على الجميع أن يتعاونوا. وإذا كان الذين تطرفوا في فكرهم زعموا أن غيرهم عدوهم فهم بهذا مخطئون وآثمون. وأضاف: إن واجب الحضارات أن تتعاون لا أن تتصادم، وما يحدث من صدام أو عداوات إنما هو نتيجة التطرف الفكري والجهل بحقائق الرسالات السماوية التي تدعو للسلام ونبذ العنف والإرهاب. ولقد نادى الإسلام الناس قاطبة ليتعارفوا فقال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
حرمة العدوان
وأشار د.هاشم إلى أن الإسلام حرم العدوان على نفس المسلم وحرم أيضاً العدوان على غير المسلم من أهل الأمان والعهد فقال الله سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). بل أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن اعتدى على حرمة غير المسلمين من أهل الأمان والعهد الذين لم يحاربونا فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس أو كلفه ما لا طاقة له به فأنا حجيجه يوم القيامة). وواجب المجتمع الدولي أن يفرق بين ظواهر العدوان والإرهاب التي يمارسها أصحاب الفكر المتطرف والتي تمثل عدواناً ظالماً على النفس الإنسانية وعلى الأموال والأعراض، وبين المجاهدين الذين يدافعون عن أنفسهم وأرضهم وعرضهم ومقدساتهم. إن هناك فرقاً شاسعاً بين من يدافع عن أرضه وعرضه وبين الظالمين الذين يروعون الآمنين ويضربون الناس ومصالحهم.
اختلاف البشر
من جهته قال عضو مجلس إدارة مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين أتباع الديانات والثقافات في فيينا د.محمد السماك، عبر ورقته ن «أثر المحاصصات السياسية على أتباع الحضارات المتنوعة»: يتركز التفكير العام في عصرنا الرهن على فكرة الاتصال كوسيلة لفك حالة العزلة والانغلاق على الذات خوفًا من ذلك الآخر، لهذا كانت العولمة سبباً من أسباب تحقق هذا الاتصال، فقد «أقامت العولمة جسوراً من التواصل والاتصال بين الأمم والشعوب المختلفة لم تكن موجودة من قبل، ساعد ذلك على فتح آفاق للتعارف وللمعرفة لم يكن الوصول إليها بمثل السهولة التي هي عليها الآن، ومن خلال ذلك تولّد شعور عام بأن الشعوب والأمم تعرف الآن عن ثقافات وأدبيات بعضها كما لم تكن تعرف من قبل». وتحدث السماك عن مفهوم «التعارف» كقاعدة عامة مفادها «أن المعرفة الصحيحة تؤدي إلى التعارف الصحيح»، مضيفاً في هذا السياق أن التعارف -أي تبادل المعرفة بين الناس- ينطلق أساساً من الاعتراف بالاختلاف والتباين بين الناس، كما ينطلق من التعامل مع هذه الحقائق التكوينية في الذات الإنسانية على أنها ظاهرة طبيعية وعلى أنها تعبير عن إرادة إلهية في أن يكون الناس مختلفين. فاختلاف الألسن والألوان -أي الاختلاف في اللغات والأجناس- آية من آيات الله البينات. ثم أن التعارف الذي يؤسس للاحترام المتبادل على قاعدة هذه الاختلافات والتباينات، وليس على قاعدة إلغائها أو حتى تجاوزها وتجاهلها، هو أيضاً استجابة للدعوة الإلهية.
الجهل بالآخر
وأضاف السماك أن «الجهل بالآخر يزرع الشك وعدم الثقة ويؤسس بالتالي للبغضاء والكراهية»، وعلاج كل تلك المفردات هي لغة الاحترام، فالتنوع الحضاري -من وجهة نظره- على مستوى الإنسانية، والتعدد الثقافي على مستوى المجتمعات الوطنية، يحتمان تبادل الاحترام، وهذا لا يكون إلا بتبادل المعرفة، مستكملًا أطروحته في هذا المفصل بالإشارة إلى «أن الوحدة في أساس الأمر لا تكون إلا مع الآخر، والآخر لا يكون إلا مختلفاً، وإلا فإنه لا يكون آخر» والحفاظ على هذه الوحدة يتطلب الحفاظ على الآخر، واستمرارها استمرار له، مستشهداً بثلاث قواعد أساسية تقوم عليها فكرة «الوحدة» في التنوع، كانت القاعدة الأولى قد تمثلت في «الوحدة الإنسانية» بمعنى أن الناس جميعًا يشكلون أمة واحدة خلقها الله من نفس واحدة. أما القاعدة الثانية هي «التنوع الإنساني» استناداً للآية الكريمة «وجعلناكم شعوباً وقبائل». أي أن هذا التنوع جعل بإرادة إلهية، وأن وجوده هو تجسيد لهذه الإرادة الإلهية وتعبير عنها. وأضاف: لنختزل القاعدة الثالثة دائرة الفكرة فيها، أن الهدف من هذا التنوع هو التعارف بين الناس تحقيقاً لوحدة تحفظ التنوع وتحترمه وتصونه. حيث تكتمل الآية القرآنية بتحديد الحكمة من التنوع بقولها «لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، فالتعارف هو الجسر الذي يربط بين الجماعات المتنوعة والمختلفة. ولكن لا تعارف من دون معرفة، ذلك أن التعارف يقوم أساساً على المعرفة. ويفترض بالآخر أن يكون مختلفاً حتى نتعرف إليه. ويفترض أن نكون نحن مختلفين عنه حتى يتعرف إلينا. ومن دون هذا الاختلاف ما كانت هناك حاجة للمعرفة، وما كان للتعارف أساساً أن يكون.
ولفت السماك إلى أن نيتشه كان على حق عندما اعتبر «التسامح إهانة للآخر»، معتبراً السماك أن «الاختلاف» كمفهوم لا يتناقض مع الوحدة الإنسانية، إذ يرى فيها علاقة تكاملية يمكن أن تحقق من خلال المبادئ الثلاثة التي قال بها القرآن الكريم: المبدأ الأول هو «التداول» «وتلك الأيام نداولها بين الناس» إذ لو كان الناس كلهم شعباً واحداً أو إثنية واحدة أو على عقيدة واحدة وفكر واحد، لما كانت هناك حاجة للتداول، ولأنهم مختلفون، ولأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكونوا مختلفين، كان لابد من التداول، والتداول يعني تواصل الإنسانية واستمرارها بما هو مناقض لمقولة نهاية التاريخ. فالتداول حياة، والنهاية موت.
مبدأ التدافع
المبدأ الثاني هو «التدافع» «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»، فالتدافع -وليس التحارب ولا التصادم- هو تنافس ارتقائي وتطويري للمجتمعات الإنسانية المختلفة. ذلك إن المجتمعات هي كالمياه، إذا ركدت أسنت، وإذا تحركت وتدافعت أمواجها، تعانقت مع حركة الضوء والريح مما يوفر لها عناصر الحياة والانتعاش والنمو والتقدم. فمن دون الاحتكاك الفكري والتلاقح الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس المختلفين والمتنوعي الثقافات، يفقد الذهن عطشه إلى المعرفة التي هي عود الثقاب الذي يلهبه. إن الاختلاف بين الناس وما يشكل الاختلاف من تدافع هو أحد أهم مستلزمات عدم فساد الأرض. المبدأ الثالث هو التغاير «وما من دابة في الأرض ولا طائر بجناحيه إلا أمم»، «ولكل أمة رسول»، «كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم». فالتغاير والاختلاف هو القاعدة، وهي قاعدة عصية على التجاوز، تشكل الثابت الدائم في المجتمعات الإنسانية منذ بدء الخلق وحتى نهاية الزمن. ولذلك أرسى الله قاعدة التعارف المكملة لقاعدة الاختلاف والتغاير. والقاعدتان معاً، تشكلان الأساس الذي تقوم عليه الأخوّة الإنسانية التي لا سلام ولا استقرار من دونها. لقد قال الإسلام بالتعارف بين الجماعات البشرية ولم يقل بالتسامح، كان نيتشه على حق عندما اعتبر «التسامح إهانة للآخر» لما يتضمنه من فوقية المتسامح تجاه المتسامح معه.