ليست هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، التي تنظم فيها مملكة البحرين مؤتمرا بهذه الأهمية، كما أنها ليست المرة الأولى التي تتمكن فيها المملكة من لم شمل هذه الكوكبة من علماء ورجال الدين، وتستضيف فيها هذا الحضور الكبير والمكثف من المهتمين والمتخصصين في الحوار بين الحضارات والثقافات وأصحاب الأديان..
وقد كشفت الأيام الثلاثة الماضية التي انتظم فيها مؤتمر حوار الحضارات والثقافات عن عدد من الدلالات المهمة، قد يكون أهمها: الثقة التي باتت توليها الدوائر المختلفة لقدرة البحرين على تنظيم واستضافة مثل هذه الفعاليات المهمة، ليس فقط باعتبارها إحدى الدول الرائدات في صناعة المعارض والمؤتمرات العالمية بشتى أنواعها وتخصصاتها ومجالاتها، وإنما باعتبارها مركزا للجذب والاستقطاب الإقليمي والدولي، وملتقى تتلاقى فيه الأفكار والرؤى والاتجاهات، ومنبرا يعكس نموذجها في التسامح، ويبرز رسالتها الحضارية في ضرورة التعايش بين الناس بمختلف أطيافهم وألوانهم.
واقع الأمر، أن مؤتمر حوار الحضارات والثقافات بالفعاليات التي دارت خلاله سواء كانت من حيث التفاعل أو النتائج التي أسفر عنها بالنظر إلى الوثيقة التي صدرت عنه، فتح الباب واسعا لدور حضاري مهم يمكن أن تمارسه البحرين على مستوى التحاور بين أصحاب الثقافات والديانات المختلفة، وعزز من صورة البحرين المشرقة كوجه بارز في قضية باتت من أهم قضايا وملفات العالم المعاصر والعلاقات بين الدول، كما كرس من تواجدها وحضورها عال المستوى في الأوساط والمحافل المختلفة، بل وقدر لها العالم دورها كوسيط نزيه وكبير يمكن أن يقوم بدور في حلحلة الخلافات وتسوية الأزمات بين الشعوب والدول.
صورة ورسالة البحرين الحضارية
لعل من بين أهم المؤشرات الدالة على كل هذه المعاني ما يتعلق بالسمعة التي يمكن أن تكتسبها البحرين، والمكانة التي يمكن أن تعود عليها وتحققها قيادتها الرشيدة بفضل مثل هذه المؤتمرات بمختلف أشكالها ومستوياتها..
وتبدو هذه الصورة والرسالة واضحة بالنظر إلى أن المؤتمر الذي استضافته المملكة لم يكن الأول من نوعه في هذا الإطار الحضاري تحديدا، وبطبيعة الحال لن يكون الأخير، مثلما أُشير إلى ذلك من قبل، وكان له عظيم الأثر في الانطباع الذي يسود عن المملكة حاليا في الأوساط المختلفة باعتبارها قادرة على إيجاد خطوط اتصال مع الدوائر العالمية المختلفة، السياسية منها والاقتصادية، فضلا بالطبع عن الحضارية والثقافية..
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المملكة استضافت في مراحل سابقة العديد من المؤتمرات التي تؤكد حرصها على دعم مسيرة التحاور بين الشعوب والحضارات وأصحاب الأديان، كما أعلنت من المواقف ما يعكس إيمانها الواثق بالقضية باعتبارها السبيل الأمثل لمعالجة المشكلات، وقد يكون مهما هنا إبراز تلك المواقف والفعاليات التي أبدتها القيادة الرشيدة ورعتها المملكة وأشرفت على تنظيمها وبمبادرة منها، من قبيل: موقف جلالة العاهل المفدى وتأييده لمبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار بين الأديان، ودعمه أيضا لما جاء في مؤتمر مدريد بهذا الخصوص، وكذلك مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي نظمته البحرين عام 2002، وأيضا منتدى الوسطية بين النظرية والتطبيق في فبراير 2005، علاوة على منتدى حوار الحضارات في يناير 2008، وغيرها الكثير الذي لا يتسع المجال هنا لذكره..
كما لا يخفى أيضا موقف حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى ال خليفة عاهل البلاد المفدى وتوجيهاته السديدة إزاء قضية التحاور بين أصحاب الثقافات والأديان المختلفة، ولا يمكن هنا تجاهل مبادراته الكريمة والمتعددة في هذا السياق، وإن كان أبرزها عام 2008، وذلك خلال اجتماع كبير بالجمعية العامة للأمم المتحدة خُصص لدعم قضية التحاور والتسامح والتعايش، وكان بمشاركة عدد من رؤساء وممثلي الدول العربية والأجنبية، وأعلن فيها جلالته استعداد المملكة الواضح لاستضافة أمانة عامة لحوار الأديان والثقافات بحيث يكون مقرها البحرين، كما اقترح جلالته وقتها أن يتم تبني إعلان عالمي من قبل الأمم المتحدة يتضمن دور الأديان في إرساء السلام والعدالة والحرية في العالم.
ولا شك أن لكل هذه المبادرات والمواقف انعكاسها الإيجابي على صورة البحرين في المحافل الخارجية، وتعزز من دورها ورسالتها الخاصة بالتسامح والتعايش والتوافق نحو العالم وقضاياه المختلفة، وهو الدور الذي تواصله البحرين حتى الآن، خاصة مع التحديات التي تفرضها تطورات العصر سواء بسبب تصاعد نبرة التعصب والتطرف والعداء والكراهية أو بسبب تحميل الأديان ما لا تحتمل واتهامها بالمسؤولية عما تجنيه أيدي قلة من أتباع هذه الأديان من آثام رغم أن الدين منهم براء.
البحرين كملتقى للتواصل والتفاعل
المتابع لجلسات المؤتمر، والمداخلات التي أُلقيت خلاله، إضافة إلى الأوراق التي نوقشت في إطاره والتي زادت على العشرات، بجانب المواقف التي أبداها المشاركون فيه، والاستقبالات التي قام بها العاهل المفدى لرموز العمل الديني العالمي، كشفت جميعها عن حقيقة رئيسية واحدة تتعلق بحجم المساهمة التي يمكن أن تقدمها المملكة في خدمة الإنسانية، والمكانة التي باتت تشغلها الآن في الأوساط والدوائر الحضارية والثقافية المختلفة..
ولا أدل على ذلك من التقدير الكبير الذي قوبل به مجهود المملكة في تنظيم واستضافة هذه الكوكبة من العلماء والمتخصصين، وعلى رأسهم شيخ الأزهر الشريف، ويتجلى ذلك بكل وضوح عند تحليل مضامين الخطابات والكلمات التي ألقيت في المؤتمر والمواقف التي بدت في أروقته، وهنا تبرز عدة قضايا رئيسية:
الأولى: تلك الإشادة والثناء على مبادرات المملكة العديدة لدعم الحوار الحضاري بين الأمم والأديان والمذاهب المختلفة، وذلك لأن مثل هذه المؤتمرات لا تخدم فقط البحرين ورسالتها وتعزز من دورها، مثلما بدا في الفقرات السابقة، وإنما لأنها تخدم من جانب الأمتين العربية والإسلامية في وقت تتعرض لمحاولات مغرضة لتشويه معتقداتها وأفكارها وإرثها التاريخي والحضاري..
كما تخدم العالم بأسره من جانب آخر على اعتبار أن المؤتمر استطاع لم هذا اللفيف الضخم من العلماء تحت سقف واحد وبهدف واحد وهو التوصل لرؤى ومواقف مشتركة يمكن أن تنقذ العالم والبشرية في عمومها مما تتعرض له من محاولات لبث الفوضى والوقيعة والبؤس والدمار، وهو ما أكده العاهل المفدى في أكثر من مناسبة بالأمل في "تحقيق وحدة إنسانية تتخطى حدود الزمان والمكان".
الثانية: التعويل على دور لرجال الدين وعلى الحوار كأداتين رئيسيتين لتحقيق الطموحات العالمية في الأمن والاستقرار والتطور والتقريب بين الناس، وذلك بديلا للأفكار التي تتردد هنا وهناك بشأن التصادم بين الحضارات والتطرف الفكري المغذي للعنف الذي يبثه بعض أصحاب الديانات لأغراض لم تعد تخفى على أحد..
وهنا تتضح إحدى أهم النتائج غير المباشرة التي أسفر المؤتمر عنها، وتتعلق بدعم آليات التواصل والتحاور بين القادة الدينيين والمفكرين باعتبار أن ذلك هو الخطوة الأولى الأساسية لإيجاد الحلول وتبادل الأفكار وتأكيد الرؤى المشتركة وتوحيد المفاهيم الملتبسة ومعالجة سوء التفاهم الناتج عن عدم التواصل والمؤدي لإثارة النزعات الخلافية والطائفية والمذهبية.
الثالثة: الدور الذي ينبغي أن تتولاه الدول ومنظمات المجتمع المدني المحلية وعبر الوطنية، فضلا عن المنظمات الإقليمية والدولية بمختلف أشكالها ومسمياتها ليس فقط لتعزيز قيم الحوار والتعايش بين الأمم والشعوب، وإنما لإزالة أحد أهم اسباب الشقاق فيما بينها، والذي يتعلق بفجوات التنمية والفقر وسوء توزيع الموارد وعدم المساواة..
لذا بدا مهما أن يحث المؤتمر على ضرورة الاستعانة بالخطط والبرامج المتفق عليها دوليا لإزالة مسببات الخلاف، كالعقد الدولي للتقارب بين الثقافات الصادرة عن اليونسكو(2013 – 2022) والخطط المقررة من المنتدى الدولي لتحالف الحضارات وغيرها.
إعلان البحرين وثيقة أممية
إضافة إلى ما سبق، جاء إعلان البحرين، الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر في ختام فعالياته، لتؤكد على عدة نتائج وتوصيات جوهرية أخرى ستخدم بالتأكيد الأهداف والتطلعات المشتركة لشعوب الأرض، والتي التأمت جميعها على أرض البحرين، خاصة أن الوثيقة جاءت بعدة توصيات مهمة تتعلق بجانبين رئيسيين، أحدهما خاص بالثوابت المشتركة التي تجمع الإنسانية في عمومها دون تمييز للعمل من أجل المصلحة العليا المشتركة للشعوب في الأمن والاستقرار والتنمية، وفي مقدمتها وحدة الجنس البشري والاحترام المتبادل والمساواة بين الأمم والشعوب وعدم الاستغلال السياسي للأديان والحضارات وغير ذلك.
الآخر خاص بالآليات التي يمكن اتباعها لتحقيق مصالح البشرية جميعها دون إقصاء أو استبعاد، والتي جاء على رأسها بالطبع الحوار الذي وصفته الوثيقة باعتباره "الرافعة التي تحمل مسؤولية ترسيخ وحدة الإنسانية في إطار تنوعها واختلافها وتعددها"، داعية إلى العمل على تشجيع وغرس قيم وثقافة الحوار بكل الوسائل الممكنة، التربوية والثقافية منها والتعليمية والإعلامية، ونبذ كل
أشكال خطابات الكراهية التي تؤدي إلى التطرف ومن ثم العنف والعنف المضاد، ومساندة كل جهود الأمم المتحدة ومختلف المنظمات الإقليمية من أجل تكريس قيمة الحوار الحضاري خدمةً للإنسانية.