كتب – جعفر الديري:
يحضر المفكر د.محمد جابر الأنصاري مستشار جلالة الملك للشؤون الثقافية والعلمية، في المشهد البحريني والعربي، بصفته أحد أبرز رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي.
لقد تبنى الأنصاري مشروعاً فكرياً وثقافياً بالغ الأهمية، يتمثل في دراسة البنيتين الذهنية والمجتمعية للواقع العربي، وهو المشروع الذي نال اهتمام النخب المثقفة في العالم العربي، وأخذت تبرز على صدر صفحات الصحف الكثير من المقالات والدراسات المتعددة التي تناولت فكره بالدراسة والبحث والتحليل، كما أقيمت المنتديات والملتقيات لدراسة مشروعه الفكري من مختلف جوانبه.
وقد طبع هذا المفكر، الحقبة الممتدة منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن، بأفكار ومواقف وآراء تميزت بالجدة والخروج على المقولات المألوفة في الفكر السياسي العربي المعاصر، بصدد الدولة القطرية والوحدة والبنية الذهنية والمجتمعية العربية، بما جعل منه عن حق، أحد كبار رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي.
وكما يقول مؤلف كتاب «الدكتور محمد جابر الأنصاري.. المفكر والأفكار» الباحث متجدد الإنتاج د.منصور سرحان فإن د.الأنصاري رائد الحركة الفكرية والثقافية في مملكة البحرين، وأحد كبار رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي. وقد غطت كتاباته، ومقالاته، وتحليلاته السياسية، ورؤاه الفكرية، مساحات واسعة من صحافة الوطن العربي من خليجه إلى محيطه، مشيراً إلى أنه ورغم أن الأنصاري بدأ مشواره بكتابات أدبية ونقدية، إلا أنه اتجه إلى الكتابة في مجالات الفكر والسياسة والثقافة، مثرياً المكتبة العربية بكتب هي في أمس الحاجة إليها في تاريخنا المعاصر.
يؤكد سرحان أن فكر الأنصاري ورؤاه، شغل كبار المفكرين العرب باعتباره أحد أبرز رواد الفكر العربي في التاريخ المعاصر. وقد اعترف بذلك جمهرة من كبار المفكرين والأدباء والكتاب العرب الذين وثق سرحان شهاداتهم في كتابه التذكاري للبرهنة على تجاوز فكرة ضفاف الخليج وصحراء الجزيرة العربية لينفذ إلى جميع الأقطار العربية المشرقية منها والمغربية.
تصحيح المسار
يـــرى سرحــان أن مشـــروع د.الأنصاري الفكري رائد ومتميز، يتطلع إلى تصحيح المسار السياسي العربي من خلال توجه ديمقراطي يؤمن بحرية الفكر والتعددية والتعايش السلمي، مورداً سرحان شهادات عربية في الأنصاري فيها دلالة ساطعة على أهميته في فكرنا العربي المعاصر. من ذلك مثلاً قول الناقد المصري رجاء النقاش «أن جيلنا لم يقصّر في إنجاب العقول الكبيرة التي حملت هموم الأمة، وقدّمت الحلول الدقيقة لمأساتها»، وقال الشاعر غازي القصيبي «أطلق الأنصاري كرة ملتهبة بالأفكار، فهل يتناولها المفكرون العرب، أم يخشون على أيديهم من الاحتراق»؟ ورأى آخرون أن «الأنصاري أحسن ممثل ومجسّد لفكر ابن خلدون في القرن العشرين»، وأنه «رائد المنهج المؤسسي للدولة في علم الاجتماع العربي المعاصر».
مواجهة المأزق
ذلك ما يذكره كتاب د.سرحان، أما الكاتب كرم الحلو فيؤكد أن د.محمد جابر الأنصاري، هو واحد من أبرز الرموز الفكرية العربية المعاصرة. فقد طبع هذا المفكر، الحقبة الممتدة منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن، بأفكار ومواقف وآراء تميزت بالجدة والخروج على المقولات المألوفة في الفكر السياسي العربي المعاصر، بصدد الدولة القطرية والوحدة والبنية الذهنية والمجتمعية العربية، بما جعل منه عن حق، أحد كبار رواد الفكر والسياسة في الوطن العربي.
ويوضح الحلو أن مؤلفات الأنصاري تكشف الملامح الأساسية لمشروعه الفكري ومقولاته النقدية بصدد القضايا العربية الكبرى. فإزاء الهزائم العربية دعا الأنصاري إلى عدم الهروب من المأزق، وإلى دراسة الإخفاقات التي شهدتها الأمة، ونقد الواقع العربي بمعناه السوسيولوجي العميق في امتداده المكاني والزماني، على أسس معرفية، لأن النقد الخاطئ يؤدي إلى نتائج كارثية، وهذا ما آلت إليه السياسات الحزبية العربية في الخمسينات والستينات.
ومن هذا المنطلق، نادى الأنصاري بوحدة عربية تقوم على الاختيار الحر وليس بالضم والإلحاق، وعلى أساس ديمقراطي، لأن لا قيام للعروبة إلا بقبول التعايش والتسامح داخل تعددياتها القبلية والمناطقية والمذهبية والتعدديات الإثنية الأخرى في المنطقة العربية. فالتعدديات مشروعة ولا يمكن القضاء عليها، لكن يمكن تطويرها ودمجها على المدى البعيـــد، إلا أن الاختـــلاف يجـب ألا يكون خلافاً، بل يجب أن يدار في شكل توحيدي وعلمي.
توحيد الدولة القطرية
على هذا الأساس رأى الأنصــــــاري أن الــــدولــــــــــــة القطريـــــة العربية، خلافـــاً لأي منظــــــور قومـــي عاطفـــي، هـــي التي وحّدت مجتمعياً واقتصادياً وتربوياً ونفسياً، بلداناً متعددة المناطق كاليمن والسعودية وليبيا وسورية والإمارات العربية، وإذا كان من سبيل إلى وحدة عربية فلا بد من أن تبدأ من هذه الدول.
لكن ثمة تأزماً سياسياً مزمناً عند العرب، تفاقم في العقود الأخيرة، وهذا عائد إلى أن الحضارة العربية الإسلامية قدمت الكثير في المجالات الروحية والعلميـــة والإنسانيــــة، إلا أن عطاءهــا فــي المجــــال السيـــــاســــي كــان أضعـــف جوانبهــا علــى الإطلاق، وهي ظاهرة تدعو إلى القلق الشديد، ما يتطلب تفهم القاعــدة السوسيولوجية العربية العامة، ومجمل الجذور السياسية التاريخية التي تنتج وتعيد إنتاج الأزمات والإخفاقات السياسية بصورة متتابعة، مـن أجــل الإمســاك بهـــا وتشريحها، والاتفاق على العلاج الناجع لها، بعيداً من البكائيات والإحباط الذاتي وهاجس المؤامرة.
اهتم الأنصاري بالنظام الديمقراطي الذي رأى فيه القدرة على اختراق وتجاوز النقائض، وإنقاذ البشرية من الاستبداد. إلا أنه لا بد من التفكير في كيفية استنبات الديمقراطية في الأرض العربية، لأنها ليست نبتة منعزلة عن تربتها ومناخها وسمائها، وليست مجرد ثمرة يمكن أن تقتطع وترسل إلى مكان آخر.
وأعطى الأنصاري حيزاً كبيراً من اهتمامه لدراسة ظاهرة «التوفيقية» في الفكر العربي، فكشف من دون مواربة، لا تاريخيتها ومسؤوليتها عن وضعية «اللاحسم» في الحياة العربية، وحث بالمقابل على ضرورة تجاوزها بخلق صيغة توحيدية تستوعب التعدديات ولا تنكرها.
حوار السياسي والمثقف
ونادى الأنصاري بالتحاور بين السياسي والمثقف، لأن من أسباب أزمتنا، أن الثقافة والحضارة تقفان في جانب، والسياسة تقف في جانب آخر. ومن أجل تجاوز هذه الأزمة لا بد من أن يتثقف السياسي ويتسيّس المثقف.
وصاغ الأنصاري قاعدة توضح رباعية ازدواجية يعاني منها الفكر العربي، هي: العقل والإيمان، الدين والدولة، النظرة إلى الغرب، والقومية أو اللاقومية. خلال محاضرة أقامتها اللجنة الثقافية في كلية الآداب بجامعة البحرين بعنوان «إشكالات الفكر العربي المعاصر». فقاعدة الفكر الأنصاري استطاعت صوغ معادلة تبين من خلالها أرضية نقدية «للذات والواقع والتاريخ»، وبقراءة ابستمولوجية (معرفية) واقعية يشَرحُ من خلالها جسم الفكر العربي بعيداً عن الهيام التاريخي والمزاودة، ما يعني أن الأنصاري استطاع أن يرسم معالم الحال العربية ما بين الماضي والحاضر للانطلاق إلى المستقبل.
يقول الأنصاري إن «النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة علمية موجهة - قبل كل شيء - إلى فهم الذات (الذات الجماعية للأمة) وإعادة اكتشافها ونقدها؛ وإن العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبّط المزمن في المأزق العربي الراهن، حيث يعاني العرب التباساً خطيراً في الوعي بين التصور والواقع، وبين الأيديولوجيا والحقيقة».
ويتضح من تلك المقولة إن لديه نظرة قرائية تربط ما بين الماضي والحاضر بطريقة حضارية لترسم معالم الانطلاق نحو المستقبل وفق شعار «معركة الحضارة قبل معركة السياسة»، موضحاً أن المجال السياسي يتطلب مجالاً اجتماعياً ذا ثقافة سياسية مبنية على إطلاق الحريات، لأن الأخيرة تمثل حلقة الوصل ما بين أفراد المجتمع الواحد، والتي يستطاع من خلالها بناء العامل الاقتصادي لأن وضعية الأنظمة السياسية لا تقوم إلا على قاعدة الفعالية الاقتصادية.
قاعدة فكرية متينة
ويتربع المفكر الأنصاري على قاعدة فكرية متينة، جذورها عقلانية، وامتدادها واقعي، وأغصانها تحمل ثماراً فكرية ترنو إلى المستقبل، وهذا واضح من خلال كتاباته النقدية، ككتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية: مدخل إلى إعادة فهم الواقع العربي»، وكتاب «التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام، مكونات الحالة المزمنة»، نستنتج من ذلك أن المفكر الأنصاري يعتمد اعتماداً كلياً على قاعدته الرباعية الأنصارية سابقة الذكر ليبين كينونة التأزم العربي قياساً بتلك القاعدة.
ولد الأنصاري العام 1939 في مدينة «المحرق» التي كانت العاصمة الثقافية للبحرين في العقود الأولى من القرن العشرين. بدأ دراسته في الكتاتيب حيث تعلم القرآن الكريم وحفظه، ثم انتقل إلى المدرسة النظامية في المحرق ليلتحق بعدها بالمدرسة الثانوية في المنامة. وبعد أن أتم دراسته الثانوية، أُرسل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث أمضى اثنتي عشرة سنة من حياته نال خلالها البكالوريوس والماجستير ثم دكتوراه في فلسفة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.
في العام 1969 عيّن عضواً في مجلس الدولة وأصبح وزيراً للإعلام. وبعد حصوله على الدكتوراه العام 1979 التحق بمكتب «الأنوار» و»الصياد» في باريس حيث شارك في تأسيس «معهد العالم العربي». ثم عاد من باريس ليبدأ العمل كأستاذ مساعد في جامعة الخليج العربي، إلى أن أصبح عميداً لكلية الدراسات العليا وأستاذ الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر في هذه الجامعة. العام 1989 كلّف بمهمات المستشار الثقافي والعلمي بديوان صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، إضافة إلى عمله الأكاديمي في جامعة الخليج العربي، ولايزال إلى الآن مستشاراً لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى. وقد منحه الملك الحسن الثاني عضوية أكاديمية المملكة المغربية العام 1999، وحاز جائزة الدولة التقديرية للإنتاج الفكري في البحرين العام 1989، جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عن كتابه تحولات الفكر العام 1981، وسام قادة مجلس التعاون في قمة مسقط العام 1989، وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر، وجائزة سلطان العويس في الدراسات القومية والمستقبلية نظراً لتميز «أعمال د. محمد جابر الأنصاري باتساق الرؤية الفكرية في إطار مشروع نقدي للفكر العربي السائد تطلعاً إلى تجديد المشروع النهضوي، كما تميزت رؤيته الفكرية بالتشخيص العيني للواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والحضارية في حقلي التراث العربي الإسلامي وفكر عصر النهضة».
مؤلفات ساحرة
استطاع الأنصاري، رغم كل مهماته الثقافية والأكاديمية، إنجاز أكثر من 20 مؤلفاً في الفكر والأدب والثقافة والسوسيولوجيا السياسية، منها «لمحات من الخليج العربي»، «هل كانوا عمالقة»، وهو رؤى نقدية لبعض المشاهير أثارت سجالات فكرية، «العرب والعالم سنة 2000»، وهو تصور للمستقبل العربي في القرن الحادي والعشرين، «مساءلة الهزيمة» وهو تأمل في هزائم العرب المتتالية منذ نكبة 1948 ومأزق الإيديولوجيين العرب، «الفكر العربي وصراع الأضداد» كتاب موسوعي في الدين والفكر والسياسة، «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية»، مدخل بحثي لتلمس بعض العوامل الخاصة بتكوين السوسيولوجيا السياسية للمجتمعات العربية، «العرب والسياسة: أين الخلل»، يستكشف فيه المؤلف الأبعاد السوسيولوجية لتكوين العرب السياسي، «التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام»، يناقش تأثير البيئة المجتمعية على سياسة العرب، وموقف الإسلام من الأعراب والبداوة، ويميز في كتابه بين العرب والأعراب، مستخدمًا البحث اللغوي في مدلولات الألفاظ لمعرفة ما خلفها من أفكار وتصورات، مع عدة مواضيع أخرى.
«تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930-1970»، وهو دراسة عميقة تغوص في دراسة المدرسة التوفيقية التي كانت بزعامة العلامة عبده وجمال الأفغاني والكواكبي, يدرس الحقبة الجديدة بعد انتهاء الخلافة والإشكالات التي حطت على الدويلات الجديدة «سايكس بيكو» وكيف هو وضع التيارات الجديدة بين التحديث المتمثل في العلمانيين المقبلين من أوروبا ثم الليبراليين منهم لاحقاً الاشتراكيون ثم القوميون وكيف يتصادم هؤلاء ويتناقضون ويحلمون ويبذرون بذراً في أرض تتمخض ذلك ثم لا تنتج شيئاً ومع السلفيين. وفي هذا الكتاب نجد كلمات كثيرة مثل: الاشتراكية، الليبرالية، العلمانية، الشيوعية، التوافقية، التجديد، التنوير، العودة إلى الإسلام، القومية، العروبة، التقدمية، العنف، الثورة، الانقلاب، الشرق والغرب، روح الشرق، اليسارية، اليمينية وغيرها مما يحوي بالوضع في ذلك الوقت و»اللخبطة» الثقافية والدينية والسياسية والتي امتدت حتى عصرنا الحاضر وإن كنا أكثر تصالحاً واتزاناً وتوفيقاً بين روح الإسلام ونهضة الغرب.
«انتحار المثقفين العرب»
«انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية»، وهو عبارة عن دراسة فكرية في الظاهرة الانتحارية العربية في ضوء الهزيمة القومية، يعالج فيه الأنصاري موضوع الانتحار لدى الأدباء والمفكرين العرب كظاهرة معاصرة لم تكن موجودة في العصور القديمة بهذا الشكل الذي نجده الآن، ويبحث في النزعات الانتحارية لدى المبدعين والمثقفين باعتبارهم أكثر الشرائح ميلاً للانتحار من أجل القضية لغلبة الجانب المبدئي القيمي على تكوينهم وتفكيرهم، ويشبههم بالرهبان البوذيين الذين يشعلون النار في أنفسهم للاحتجاج على الظلم أو للتنبيه إلى قضية عادلة، ويرى أن المبدع صاحب النزعة الانتحارية قد عانى مع معاناته لقضيته المبدئية مشكلتين فرديتين أساسيتين، إحداهما تتمثل في استحالة الانسجام مع الآخرين أو مع العالم أو حتى مع النفس، بينما تتمثل الثانية في مشكلة عجز أو قصور جنسي أو غرامي أو إخفاق مرير في علاقة زوجية بحيث تتضافر هاتان المشكلتان مع شعور المبدع بإخفاق قضيته الكبرى من قومية أو فكرية أو إنسانية وبشكل يؤدي إلى بلورة قرار الانتحار أو الانجراف نحوه بصورة أو بأخرى.
«رؤية قراَنية للمتغيرات الدولية»: مقالات وأبحاث «لم تبرز دفعة واحدة...وإنما تنامت مع الأحداث والتطورات والتجارب المريرة التي تشهدها منطقتنا العربية - الإسلامية».
يستفتح الأنصاري الكتاب بمدخل عن المتغيرات الدولية من وجهة قرآنية. ثم ينقسم الكتاب بعد ذلك إلى ثلاثة أبواب رئيسة كل باب يتفرع إلى عدة مواضيع فرعية، الباب الأول: في بواكير الهجمة الجارية لإعادة تشكيل المنطقة. الباب الثاني: نحو تأسيس مختلف لصلة العروبة بالإسلام. الباب الثالث: في المثلث الحتمي للنهضة، الإسلام - العروبة – العصر. تحدث فيه عن: الاستشراق وفك الارتباط بين الإسلام والتقدم، الإسلام والحضارة الغربية: نحو رؤية الوجه الآخر، انتكاسة الثورة المهدية: الدرس المطلوب للحاضر، مركزية مصر في مثلث النهوض في ضوء دورها الثقافي بمطلع النهضة.
عمق الدافع الإيماني
ونقتبس من كلمات د.محمد جابر الأنصاري أن «التأريخ لإلحادية بعض الاتجاهات الأوروبية يجب أن يقابله- موضوعياً ومنهجياً من باب الصدق مع أمانة التاريخ والحقيقة-، تسجيل لكل تلك الأفكار والأرواح المؤمنة التي قاومت الإلحاد وعارضته في الحضارة الغربية ذاتها، الأمر الذي يثبت أن أية حضارة مهما بلغت ماديتها وعلميتها، لا يمكن أن تغفل وتهمل عمق الدافع الإيماني في فطرة الإنسان وفكره وثقافته وعلومه».
«إذا كانت بعض المنابر في العالم العربي قد تعمدت الترويج لإلحادية ماركس وسارتر وغفلت عن ذلك الحشد الكبير من العلماء الغربيين المؤمنين، فتلك مسألة تعيدنا لدوامة السياسة وأغراض الأيديولوجية بعيداً عن حوار الحضارة، وتكشف عن (أزمة تلك المنابر العربية ) أكثر مما تدين الحضارة الغربية. وبإحصائية أولوية يتضح أن عدد العلماء والفلاسفة المؤمنين في تاريخ الحضارة الغربية يفوق أضعاف عدد ملاحدتها وآخر هؤلاء العلماء المؤمنين اينشتاين الذي قال لرجل يهودي سأله عن الإيمان بالله: إني لا أؤمن بإله إسرائيل، لكني أؤمن بإله الكون قاطبة».
«الذي يحصل في الساحة العربية حالياً هو عكس هذه المعادلة، فالمهادنة تظهر أمام الخصم في ساحة الصراع العسكري والسياسي، والرفض يكون لعناصر القوة الحضارية لديه. وهذا موقف (مثالي) لصالح الخصم؛ لأنه نفسه يريد هذه المعادلة المطلوبة، يريدنا مهادنين له استراتيجياً، ورافضين له علمياً وتقنياً وحضارياً، لتستمر تبعيتنا له، ولا يجد بعض المفكرين حرجاً في الإفتاء بمباركة عملية المهادنة للخصم في ساحة الصراع السياسي والعسكري، بينما (ينقضّون) هجوماً رافضاً لا يساوم على أية محاولة لفهم واستيعاب عناصر القوة الحضارية لديه. فهي إذن مهادنة في وضع التصلب، وتصلب في موضع التفهم والمرونة. وسنبقى نراوح في مكاننا ما دمنا نأخذ هذه المعادلة بالمقلوب، لأن اختراق الخصم لساحتنا يجعلنا في موقف ضعف لا يسمح بالحوار الحضاري المتكافئ كما تيسر للمسلمين الأوائل مع الحضارات الإنسانية».
«لو أردنا أن نلخص بإيجاز في ضوء التجربة المهدية أزمة الحركات الإسلامية في العصر الحديث لقلنا بإيجاز: أن هذه الحركات قادرة على هدم ما لا تريد، لكنها عاجزة عن إقامة ما تريد».