ان التاريخ لا يكون تاريخا إلا عندما يكون في حقله ونظامه الذي وجد من أجله، خاضعا لضغوطه وقوانينه الصارمة. لكنه حين يغادره باتجاه الرواية تنتفي حقيقته الأولى التي كانت إلى وقت قريب تبدو ثابتة، ويصبح فعل القراءة الروائية من حيث هو فعل منتج، مشروطا بنظام الرواية واتساع المتخيل وحريته. أي أن على التاريخ أن يقبل بترك ثوابته وصرامته عند عتبات الرواية ويحتمي بالنسبية والهشاشة التي تسبغ الفعل الروائي الذي لا يرتكن أبدا إلى اليقين.
ذلك ما يؤكده مجموعة من النقاد والروائيين العرب، فبحسب الروائي والناقد محمد شاهين، فان التاريخ تعرض حديثا لما تعرضت له الرواية، إثر هبوب رياح ما بعد الحداثة على الاثنين، والتي نادت بأعلى صوتها أن لا حقيقة ثابتة في الاثنين. وكل ما يمتلك التاريخ وما تتضمنه الرواية ما هو إلا حقيقة يظل الوصول إليها عصيا، بل ومعلقا إلى ما لا نهاية. فأضحت قراءة التاريخ مثل قراءة الرواية تخضع لقراءات عدة تشتق من النص متحررة من المؤرخ الذي يدون التاريخ ويبحث فيه ومن المؤلف الذي يكتب الرواية ومن الظروف الآنية والمكانية التي أحاطت بكتابة النص التاريخي والنص الروائي.
ويضيف شاهين: لو ألقينا نظرة على مناهج التاريخ في الجامعات البريطانية لوجدناها تشتمل على مراجع كلها تشن هجوما على التصور التقليدي للتاريخ وطرق تدريسه الدارسة. فهذا هو كيث جنكن على سبيل المثال يقول في كتابه "إعادة التفكير في التاريخ" ان التاريخ نظرية، والنظرية لها صفات الايديولوجية، والايديولوجية تتضمن رغبات مادية. ومن المراجع الأخرى المشابهة كتاب بيفرلي ساوثجيت: ماذا ولماذا "وثمة مرجع آخر للمؤرخ ألن منسلو بعنوان: "تفكيك التاريخ". "وهكذا ضاعت الحقيقة التي كنا نلهث وراءها في التاريخ والرواية. وهكذا، مازالت الحواجز التي كانت تولد التوتر بين شقي المعرفة وأحيلت الأزمات كلها إلى عباءة النظرية التي يجللها النص.
بدوره يوضح الناقد عبدالله ابراهيم أن الرواية التاريخية التي تمعن في استحضار عوالم بعيدة، تفصلها عنا لغات مندثرة وثقافات منقطعة غارقة في كهوف الماضي السحيق لا تفرض على الكاتب هذا التفرد في النبرات والأساليب إلا بقدر ما يستطيع تمثله من فوارق الأعمار والطبقات والثقافات، ما يجعلها موطئا أيسر لانبهام الطابع الحواري وأشد قابلية للنجاح في مقتبل التجربة الإبداعية. وإذا كان كتاب الرواية التاريخية العربية يواجهون مشكلة تعدد اللهجات والمستويات في العربية التي لاتزال حية على الألسن وفي الوعي الجمعي فإن من يختار التاريخ الفرعوني يظل بمنأى نسبي عن مواجهة هذه المشكلة وحساسياتها الدقيقة لدى المتلقي، فهو على أية حال يترجم لغات أخرى لا سبيل إلى التقاط إشاراتها ورموزها وبوسعه أن يضفي عليها من النبل والجمال ما يليق بالهالة المقدسة المحيطة بتاريخها.
ويضيف: ولدت الرواية العربية في زمن مسيطر، دفع بالوعي العربي إلى مساءلة ذاتية، تقارن الزمن العربي الراهن بالزمن الغريب المتفوق عليه من ناحية، وتقارن الزمن الأول بزمن عربي قديم كان متفوقا على غيره. ولهذا بدا التاريخ، منذ البداية، عنصرا داخليا في الرواية العربية، تسائله وتلوذ به وتحاول محاكاته. ولم يكن سؤال التاريخ، في الحقل الروائي، إلا سؤال الهوية الذاتية الثقافية المأزومة، إذ الأديب العربي يحاول جنسا أدبيا جديدا غريبا عنه محاولا، في الوقت ذاته، التوفيق والمصالحة بين الوافد الكتابي وموروثه القديم، كما لو كان في القديم ما يصون الكتابة من التيه. وفي الحالات كلها، فإن علاقة الرواية العربية بتاريخها في مستوياته المتعددة، تؤمن أهدافا ثلاثة: رؤية وقائع الحاضر بوضوح لا يسمح به الزمن المباشر المعيش، تأصيل الرواية العربية، إن صح القول، أو تمييزها، بشكل أدق، عن طريق إنتاج شكل روائي مغاير لغيره، لأن الشكل الروائي الكوني لا وجود له، وخلق علاقة أليفة بين القارئ والنص، لأن نصا ينتمي إلى زمن القارىء الثقافي أقرب إليه من نص روائي يستلهم تجارب غريبة عنه.