جعفر الديري:
إذا كان الشعر عند الشاعر الروسي بوريس باسترناك "صفير حاد يملأ المكان، وخشخشة لقطع جليد تتكسر، وليل يجمِّد الورق الأخضر، ومبارزةٌ بين بلبلين". فإن الشعر عند الشاعر العراقي علي جعفر العلاق محاولة للهروب، ومحاولة أخرى للعودة، فهو يهرب منه ثم يعود إليه.
يقول العلاق في نص "الغيوم الخفيفة"
"تجرفها الريح صوب النهر
غابة
ومساء قديم
فندق
وغيوم تمسح أذيالها
بالشجر....
كانت الريح باردة
ما تزال تهب
فتدفع للنهر غيما جديدا
وسيدة
تتشبث من هلع ممتع بفتاها
......
مطر فوق معطفها
مطر فوق أحلامها
مطر شفتاها
.....
مطر عالق بالشجر
والرياح تهب على عاشقين
يغيبان في خضرة الريح طورا
وطورا،
يذوبان تحت المطر
الرياح تهب على الليل
شوق قديم
يسيل على الصخر
فوق النوافذ،
في الريح،
بين ثنايا الشجر...
المناضد يغلسها الليل،
وامرأة تلألأ من شغف
يتضوع منها الشذى
ورذاذ السهر ...
تلك النافذة البار
صاخبة
والرياح تهب:
هنالك جوع قديم
وكأسان مترعتان
وقنطرة
من حجر
تتصاعد
من حولها
ظلمة
سمك هائج
ونعاس قديم
يجئ مع الليل
ممتزجا
بأنين الشجر ...
النسيم
خفيفا
يهب على الفجر:
تحت الندى
ترتخي الآن قنطرة
من حجر
قدحان
تغطيهما رغوة الليل
جمر قديم،
سرير
عشيقان منطفئان
وحولهما قبة
من شظايا السهر"....
هو هروب مقصور على الشعراء، ومنعرجاته خاصة بهم، وليس وليد رغبة في التعبير أو التغيير، وإنما هو مداخل ومخارج وزوايا وأزقة في فضاء واسع. كلما حاول أن يخرج من دهاليزه، كلما تشهّى الدخول في أزقة أخرى منه. مداخل ومخارج لا تعترف بسكون الأشياء. يغيب فيها العلاق متمترسا بنظرة كونية للحياة والموت، وبأسئلة حملها الشعراء قبله، وحملها هو رغم علمه بثقل ما يحمل. إنه يدخل هذا المكان الكبير حاملا أسألته أو أحزانه جملة واحدة.
يحاول العلاق الدخول في حوار مع تلك الأشياء حواليه، من أجل الوصول الى إجابات على تلك الأسئلة، رغم أحمالها الثقيلة. ويعالج العلاق كل هذه الأسئلة. ويجيب عنها في منعطفات المكان الذي دخل فيه.