يجب التفريق، كما يتصوّر الكاتب خيري منصور، بين ثلاثة أنماط أساسيّة من المثّقفين، المثقّف الأوّل هو نتاج مفهوم شعبي عن الثقافة بصفتها مجرّد ركام من المعارف تُرتدى فقط عند الكتابة، فهذا النمط من المثقّفين يتأقلم بسرعةٍ مع أي طارئ، ويعود عند الحاجة فرداً من قبيلةٍ تفكِّر له، وتحلم نيابةً عنه. فقد يتحدث عن الحريّة، والدور التاريخي للنّخب، لكنه يرسب عند أول اختبار، لأن مهمّته تنتهي عند مهنته التي عزلها قصدياً عن قضايا المجتمع العربي لعجزه عن السباحة ضد تيارٍ عارمٍ أقوى منه. أما المثقف الثاني فيعيش حياتين: إحداهما سرية لطقوسه وقراءاته وموسيقاه ومجمل شجونه المعرفية، والأخرى علنيّة متوائمة مع الناس، وحتى يستطيع مواصلة الحياة عليه أن يقدّم تنازلات يومية، بحيث لا يختلف مع السائد من حوله خشية من النّبذ والإقصاء؛ إنه يعيد إنتاج تربويات الزجر والعقاب والتحريض على الكذب بحثاً عن النجاة بألفاظ جديدة، لأنه يريد أن يعيش الماضي والحاضر معاً، ويحظى برضا الجميع دون أن يخسر شيئاً. أما المثقف الثالث فيمثِّل المحاولة الباسلة للإنسان للبقاء على قيد ضميره ومهنته، قابضاً على الجمرة بلسانه لا بيده، إنه يرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويشم بأنفه متمرداً على مِنّة تأجير الحواس، ويكابد دوماً لصيانة المبادئ والمُثل العليا، فهو آخر دفاع علني عن خجل الإنسان. أتصوّر أن هناك إشكاليتين في تناول دور المثقّف، أولاهما سعي الكثير من الكتاب لتقييم مساهمة المثقف في تطوّر المجتمع بمدى تأثيره حصريّاً في الوعي الجمعي والمزاج الشعبي، أي بقدرته على إيجاد الحلول العملية لمشكلاتهم المعيشية الملِّحة، وثانيهما الإغراق المستمر للمجتمع العربي في الصراعات السياسية الثانوية ذات الصبغة القومية والمذهبية. وبالتالي فإن محاولة المثقف عدم الانجرار إلى حلبة هذه الصراعات، والانكباب بدلاً من ذلك على تنمية الوعي الديمقراطي، ونشر الأفكار العقلانية في المجتمع، تُوصم بالانتهازية، وفي ذلك ظلم بيِّن للمثقف!