فاطمة عبدالله خليل

هاجم المحلل والباحث في علم الاجتماع السياسي د.خالد الدخيل الموقف القطري من استدعاء القوات التركية إلى أراضيها، معللاً أنه تواجد لا مبرر له وينسف فكرة مجلس التعاون من أساسها، مبيناً أن الأمر يختلف كثيراً عن تواجد قوات عسكرية خارجية أخرى في دول مجلس التعاون كالتواجد العسكري الأمريكي في قاعدة العديد وغيرها من المناطق الخليجية، كون أن ذلك ما فرضه الغزو العراقي للكويت، وجاء ليكون موجهاً ضد تهديدات إقليمية تستهدف هذه الدول من خارجها، بينما جاء التواجد العسكري التركي في قطر في إطار الأزمة الحالية على نحو موجه من دولة عضو في مجلس التعاون ضد أعضاء آخرين من المجلس، ومن دون مسوغ مقنع.

وكشف الدخيل في لقائه بالـ"الوطن" أن قطر هي المنشأ والمصدر في الخلاف الراهن، وتقع عليها المسؤولية الأولى والأكبر من الملامة على ما حدث ويحدث. وأكد أنه علينا أن ننتظر القمة الخليجية في ديسمبر القادم لأنها ستعطي مؤشرات أوضح عن مستقبل المجلس، وحتى ذلك الحين فإن هناك تغيرات في نظام المجلس لم يعد مجدياً التساهل حيالها بعد انفجار الأزمة الحالية.



من جهة أخرى، بيّن الدخيل أنه إذا تم التوصل إلى حل نهائي مرض للجميع عبر بوابة الوساطة الكويتية وحل أزمة الخليج الراهنة، فسيحسب ذلك كثيراً في الرصيد السياسي لقصر السيف العامر، وتحديداً للشيخ صباح الأحمد.

وفي تقييم له للموقف العماني قال إن هذا شأن عمان دائماً فهي مسكونة بمسألة التوازنات بين دول المنطقة، وتريد أن تجعل من نفسها مهمة لكل الأطراف.

وفي سياق آخر وقف الدخيل على وقوع بعض الدول الخليجية في تهلكة الشكوك في النيات الأمر الذي يختفي وراء لغة دبلوماسية منمقة، حسب قوله، ما يشير إلى أن دول المجلس لم تتجاوز حتى الآن مرحلة تأسيسها.

وبينما اكتفى أغلب المحللين السياسيين وقادة الرأي الخليجيين باتخاذ مواقف تأييد كلية لمواقف دولهم وتوجهاتها، أشار الدخيل في خضم حديثه لـ"الوطن" إلى أن من مظاهر النضج السياسي والفكري أن يكون هناك أكثر من رأي في الأزمة، وألا يكون الجميع نسخاً مكررة لبعضهم الآخر، مؤكداً على أن يكون النقد مبنياً على معطيات ومبررات مقنعة وفي إطار ما يمكن أن يخدم الصالح العام لدولته، وليس لمجرد اتخاذ موقف الناقد أو المعارض.

ومن هذا.. جاء اللقاء بين أيدي قراء "ضفاف الخليج" على النحو الذي تحاورنا فيه وضيفنا الكريم.

= رافق قطع العلاقات البحرينية السعودية الإماراتية المصرية مع قطر، إغلاق المنافذ البحرية والبرية ومنع العبور الجوي في فضائها، ما تبعات تلك المقاطعة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً؟

- ستكون التبعات على قطر مكلفة كثيراً، لن يتضح ذلك على المدى القصير نظراً للفوائض المالية التي تتمتع بها الحكومة القطرية، لكن على المديين المتوسط والبعيد ستكون أكبر مما يتوقع، التكاليف المالية الكبيرة للاستيراد والتصدير من دول أغلبها بعيد لتعويض مقاطعة دول مجاورة، تكاليف التأمين على الشحن وصادرات الغاز، أيضاً تكاليف القوات التركية وقاعدتهم العسكرية هذه وغيرها مصروفات يومية جديدة، وستتصاعد مثل غيرها يضاف إلى ذلك تكاليف سياسية وأمنية ولوجستية بعضها ليس مرئياً والحجم الاقتصادي والسياسي والسكاني لقطر لا يسمح لها بالصمود طويلاً، والسياسة التي تتبعها قطر بعد انفجار الأزمة تشير إلى هذا الهاجس أكثر من غيره؛ فهي سياسة تدفع بشكل لافت في اتجاه إنهاء الأزمة في أقرب فرصة، وهم يعرفون أن استمرارها يؤدي إلى تراكمات تضاعف من حجم المشكلة، وتجمع الدوحة هذه الأيام بين مكابرة واضحة في أدائها السياسي، وبين خطاب إعلامي فج في عدوانيته، وبذيء في خياراته ومفرداته تجاه الدول المقاطعة، والهدف واضح؛ ممارسة الضغط على هذا الدول ودفعها نحو حل سريع.

من ناحيتها، تبدي رباعية المقاطعة أنها ليست في عجلة من أمرها، وأنه لن يكون هناك حل قبل تخلي قطر عن ما تعتبره سياسة مناكفة، وتدخل وتآمر، وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الرياض، وكان بإمكان قطر الاستمرار في اللعب داخل فراغات السياسات العربية طالما أن الجميع كان يجامل، ويتجنب الصدام، مراعاة لظروف ومصالح مشتركة، أما وقد غادرت رباعية المقاطعة هذا المربع لم يعد أمام قطر إلا مراجعة نفسها، ومردود وتبعات ما كانت تضطلع به من قبل.

= لكن قطر ترى أن مطالبتها بذلك هو نوع من التدخل في خياراتها، وانتقاص من سيادتها؟

- للأسف نوع من السجال الذي لا طائل من ورائه، فادعاء الإخوة في قطر مسألة الانتقاص من السيادة، والتدخل في خياراتهم، ليس في تصوري أكثر من ادعاء، هم من اختار الانضمام لمجلس التعاون بمحض إرادتهم مثل غيرهم وهم من وقع على اتفاقين في الرياض في 2013 و 2014، ثالثاً أن متطلبات هذين الاتفاقين والانتماء للمجلس ليست خاصة بقطر دون غيرها، بل ملزمة لجميع أعضاء المجلس، رابعاً أن أشقاء قطر هم (وليست هي) من اشتكوا من تدخلاتها لسنوات طويلة، وتطلب وساطات من الكويت وغيره، ثم إن الانتماء لتنظيم إقليمي كمجلس التعاون يفرض على الجميع أمرين استراتيجيين؛ الأول الالتزام الصارم بأمن ومصالح وأهداف هذا التنظيم، وعدم الانخراط فيما يتناقض مع أي من ذلك، ثانياً المرونة والتنازل أحياناً، ومن الجميع، لتسهيل هذا الالتزام، وتحقيق المصالح المشتركة للجميع.

= كيف تفسر التواجد العسكري التركي في الأراضي القطرية؟

- أولاً استدعاء قطر لتواجد عسكري تركي على أراضيها لا مبرر له، وينسف فكرة مجلس التعاون من أساسها.سيقال أنه بعد مقاطعة أربع دول عربية لقطر، ومحاولة فرض مطالب عليها ترى الدوحة أنها تنطوي على انتهاك لسيادتها، وأن ذلك قد يكون مقدمة لعمل عسكري تقوم به هذه الدول ضدها، فإن استعانتها بتركيا عسكرياً تعتبر في هذه الحالة عملاً احترازياً مبرراً.

لكن أولاً ما الحاجة إلى ذلك مع وجود قاعدة أمريكية في العديد، هي الأضخم خارج الولايات المتحدة؟، ثانياً إن الاستعانة بتركيا ليست رد فعل احترازي ضد تهديدات محتملة من دول المقاطعة الأربع؛ فقطر وقعت اتفاقية دفاع مشترك مع تركيا عام 2014، أي قبل الأزمة الحالية بحوالي ثلاث سنوات.ما مبررات هذا التوجه القطري؟ وما مدى التزام القيادة القطرية في هذه الحالة بمفهوم مجلس التعاون وأهدافه؟

المفترض أن أولى مهمات هذا التكتل حماية أمن واستقلال دوله الأعضاء والأزمة القطرية لا تضفي ظلالاً جديدة حول هذه المهمة المركزية، بل عمقت ظلالاً كانت موجودة قبل الأزمة الحالية، وسيقال أيضاً بأن هناك قاعدة عسكرية فرنسية في أبوظبي، وتواجد عسكري أميركي مكثف في كل من البحرين والكويت، فلماذا الاحتجاج على التواجد العسكري التركي؟ وهذا سؤال منطقي، لكنه من نوع الحق الذي يراد به باطل، فهو لا يرقى لأن يكون تبريراً كافياً ولا مقنعاً للتواجد التركي المستجد في الدوحة.

التواجد العسكري الأميركي في قاعدة العديد سبق كل ذلك بسنوات، وهو تواجد فرضه الغزو العراقي للكويت، وبالتالي تم مع الدولة الأعظم في العالم، وعلى أساس نوع من التوافق الإقليمي حوله، ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يكون مبررا إضافة تواجد عسكري إقليمي من خارج الجزيرة العربية والخليج، وإقدام قطر على ذلك يعد في تصوري سابقة خطيرة، وقد ينم عن نوايا ليست معروفة وتعزز شكوك وشكاوى الدول المقاطعة، ثم إنه تواجد لا علاقة له في الأصل بالأزمة الحالية، وإنما ترجمة لاتفاق مع تركيا قبل حوالي ثلاث سنوات، وانطلاقاً من المنطق ذاته بأن التواجد العسكري الغربي فرضته ظروف أمنية وسياسية -الاجتياح العراقي للكويت مثلاً- من خارج دول مجلس التعاون، ومن ثم فهو موجه ضد تهديدات إقليمية تستهدف هذه الدول من خارجها، أما التواجد العسكري التركي في قطر فهو في إطار الأزمة الحالية موجه من دولة عضو في مجلس التعاون ضد أعضاء آخرين من المجلس، ومن دون مسوغ مقنع.

ولا تبرر الأزمة الحالية إسراع الإخوة في قطر باستدعاء تواجد عسكري إقليمي تركي أو غير تركي، وهذه سابقة تتناقض مع أسس وروح المجلس وأهدافه، وتهدد بتفاقم أزمة المجلس الأمنية والسياسية، وهي ليست جديدة، من ناحية ثانية، تعزز هذه الخطوة الشكوك في نوايا القيادة في قطر، ومدى التزامهما أصلاً بأهداف مجلس التعاون؛ فاتفاقية الدفاع المشترك مع تركيا، والتي على أساسها تم استدعاء القوات التركية، تعني ليس فقط أن ثقة القيادة القطرية موجودة في مكان آخر، في حلفاء من خارج المجلس وخارج العالم العربي، بل استعداد سابق للأزمة للاستقواء بهؤلاء الحلفاء ضد أعضاء من دول المجلس.

وبما أن اتفاقية الدفاع المشترك مع تركيا تم التوقيع عليها بعد اتفاقي الرياض المذكورين، فإن هذا يعني أن القيادة في قطر كانت تضمر عدم الالتزام بمضمون وروح الاتفاقين. لذلك تم التوقيع على اتفاقية الدفاع المشترك مع الأتراك قبل الأزمة بسنوات، ثم الاستعجال بتفعيلها بعيد انفجار الأزمة مباشرة هذه، كما يبدو من السياق، خطوات استباقية لتداعيات متوقعة لعدم التزام مبيَت باتفاق الرياض. وإلا ما هي الحاجة أصلاً لتوقيع اتفاق دفاع مشترك مع تركيا بمعزل عن مجلس التعاون، وفي هذا التوقيت تحديداً؟ وفضلاً عن كل ذلك، تكمن خطورة السابقة القطرية هذه في أنها تجعل من قطر بوابة محلية مشرعة يدخل منها السباق الإقليمي المحموم على النفوذ إلى عمق الخليج العربي. ما مصلحة قطر من كل ذلك؟!!

= كيف تقيم الموقف الكويتي إزاء موضوع الخلاف الخليجي مع قطر؟

- هذه ليست المرة الأولى التي تضطلع فيها الكويت بدور الوسيط مع قطر، وتفاديها إعلان موقف من الأزمة، وتمسكها بمسافة واحدة من كل الأطراف حالياً أمر مفهوم طالما أنه لكسب ثقة كل الأطراف، وتسهيل مهمة الوساطة، إذا تم التوصل إلى حل نهائي مرض للجميع سيحسب ذلك كثيراً في الرصيد السياسي لقصر السيف العامر، وتحديداً للشيخ صباح الأحمد عندها سيترك أمر تفاصيل مواقف الأطراف ودور كل منها في تفجير الأزمة، ثم حلها للتاريخ.

لكن ماذا لو لم تنجح الوساطة، وبقيت الأزمة على حالها، أو اتخذت منحى تصاعدياً؟ هل سيكتفي الشيخ صباح الأحمد بالصمت، كما فعل من قبل؟ أم سيعتبر أن مسؤوليته تملي عليه، بعد سنوات من الاضطلاع بهذا الدور، أن يقول كلمته وشهادته عن من هو الطرف الذي تسبب أكثر من غيره في وجود الأزمة أولاً، وتفجيرها ثانياً، ثم في عرقلة التوصل إلى حل نهائي لها ثالثاً؟ حجم الأزمة الحالية وخطورتها تقتضي أن يعرف الناس في الجزيرة العربية والخليج العربي على الأقل شيئاً عن المسؤول الأول في خلق الأزمة أصلاً، وهي أزمة تهدد مستقبل مجلس التعاون، وتهدد أمن وسيادة دوله ومجتمعاته.

أظن أن الشيخ صباح بتاريخه وخبرته الطويلة قد لاحظ أن استدعاء قوات تركية حصل وجهود وساطته في ذروتها. ومثله يدرك دلالة هذه الخطوة، وتوقيتها إذا أخذنا هذه مع صفقة الطائرات العسكرية مع الولايات المتحدة، والصفقة البحرية مع إيطاليا، فإن قطر تكون بمثل هذه الخطوات تبني تحصينات للمطاولة والمكابرة، وليس للتفاوض من أجل التوصل إلى حل وهو ما يعني أن قطر تستخدم الوساطة غطاء لمثل هذه الخطوات، ولا تتعامل معها بشكل جاد وصادق كسبيل للخروج من الأزمة.

كيف ينظر الشيخ صباح، ومعه بقية القيادة الكويتية، إلى هذا الموضوع؟ ربما انتابهم شيء من القلق بسبب استدعاء قوات تركية في الأيام الأولى من الأزمة، والكويت معروفة بحرصها على التوازنات في المنطقة، ما قد يجعلهم ينظرون للخطوة القطرية بأنها تشكل تهديداً لهذه التوازنات، فضلاً عن أنها تتصادم مع مفهوم مجلس التعاون وما قام عليه.هل هذا هو موقف الكويت من هذه المسألة؟

= كيف تقرأ الصمت العماني في وسط زخم الخلاف الخليجي؟

- عمان دائماً ما تلتزم الصمت، لا تتحدث إذا فعلت إلا داخل الكواليس، ومع أن الكواليس العربية تكاد أن تكون مصمتة، لا تسمح بتسرب أكثر من النزر اليسير، إلا أن عمان لا تسمح غالباً حتى بهذا النزر اليسير.

في 4 أكتوبر 2012 أجرت صحيفة الحياة حديثاً مطولاً مع وزير خارجية عمان يوسف بن علوي في هذا الحديث سئل "ما المصلحة العُمانية في عدم الاعتراض على السياسة الإيرانية داخل سورية؟"، وكانت إجابته "إننا نحترم كل دولة في العالم، لأن لديها مصالح تتصرف فيها كما تشاء، وبالتالي إن كان ذلك خطأ هي تتحمله، وإن كان إيجابياً هي تتحمله، هذه هي السياسة العامة للسلطنة"، واستطراداً سئل الوزير عن الموضوع نفسه "هل توافق عُمان على تدخّل إيران العسكري؟. فأجاب قائلاً "ليس لنا حق في أن نوافق على سياسة فلان أو لا نوافق".

إجابات الوزير نموذجية في كيفية التعبير عن الموقف العماني، هي لا تعبر عن السياسة العمانية بقدر ما أنها تبرير لعدم الإفصاح عن هذه السياسة، ومؤدى الإجابتين المذكورتين أن عمان ليس لها موقف مما يحدث، وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً، عمان لها موقف، لكنها لا تريد الإفصاح عنه في أغلب الحالات، ومثل هذا الموقف يشير بشكل واضح إلى أن عمان مسكونة بمسألة التوازنات بين دول المنطقة، خاصة الجزيرة العربية والخليج العربي، هي لا تستطيع، أو لا تريد التأثير في هذه التوازنات، لذلك تكون مواقفها من قضايا وأزمات المنطقة وفقاً لما ترى أنه يحفظ هذه التوازنات، ولا يخل بها لصالح طرف ضد آخر، وهو ما يعني أن عمان في العمق ليست مع هذا الطرف أو ذاك، وتريد أن تجعل من نفسها مهمة لكل الأطراف.

= من المستفيد أكثر من سؤال "من يتحمل الملامة؟" في الخلاف الخليجي القطري؟

- معرفة من يتحمل الملامة في هذه الأزمة تحدد من المستفيد هذا مع ملاحظة أن من يتحمل الملامة ليس دائماً هو السبب في الخلاف في الأزمة الحالية قطر هي المنشأ والمصدر، وبالتالي السبب في نشأة الخلاف وتقع عليها بالتالي المسؤولية الأولى والأكبر من الملامة على ما حدث ويحدث.

لكن الأطراف الأخرى للأزمة قد تتحمل جزءاً من الملامة لأنها سمحت لهذا الخلاف أن يتراكم ويتصاعد، ومن ثم يتعقد عبر سنوات طويلة، لم تواجه قطر منذ البداية بموقف واضح وحاسم برفض سياساتها بعبارة أخرى، لم تعمل الدول المتضررة على وضع حد للمشكلة منذ بداياتها الأولى، وهذا نتيجة لسمة تفادي الصدام وتفجير المشاكل، ومراعاة حساسيات كثيراً ما تكون مبالغا فيها.

الأزمة الحالية في بعض وجوهها إحدى نتائج هذا النهج السياسي العربي لكن قطر هي المسؤول الأول سياسياً وأخلاقياً عن بدايات الأزمة، وعما يمكن أن تنتهي إليه.

= ما تأثير ما يجري في الخليج العربي على هياكل مجلس التعاون الخليجي؟

- أزمة قطر ليست عادية بكل المقاييس ويبدو من الخطاب السائد وكأن جسور العودة بين كل الأطراف باتت من الماضي وهذا ليس بالضرورة صحيحاً، دول المقاطعة تريد أن توصل رسالة قوية وواضحة للدوحة، والأخيرة تريد أن تثبت بأنها عصية على الكسر، وعندما ندقق في هذين الموقفين نجد أن الخطاب الإعلامي لدى قطر لم يكن موفقاً، وكثيراً ما أخذ منحى بذيئاً لا يتفق مع طبيعة العلاقة بين أطراف الأزمة.

في السياق ذاته نجد أن موقف قطر، مع أنها المتسبب بالأزمة يتسم بكونه انفعالياً، وأحياناً بشيء من التحدي والنزق السياسي؛ فالدوحة تصعد وتكابر، وتخاطر بعلاقاتها مع نصف دول مجلس التعاون، ومع أكبر دولتين عربيتين السعودية ومصر، وتغامر مع كل ذلك بإدخال تركيا عسكرياً في أزمة كان يجب أن تبقى محصورة في إطارها العربي لا أحد يعرف ما هو الهدف الذي يسعى إليه الإخوة في قطر من وراء ذلك هل هي محاولة لإثبات أن حجم الدول لا علاقة له بقدرتها على التحدي والمكابرة؟

والأكثر مثاراً للدهشة في هذا الموقف أن القيادة القطرية لم تتوقف ملياً أمام أبرز حقائق هذه الأزمة، وهي أن دول المقاطعة الأربع، خاصة السعودية ومصر، هي التي تشكو من قطر، وليس العكس، وهو أمر يعتبر سابقة في الخلافات بين الدول، خاصة العربية، رغم ذلك تتصرف قطر وكأنه لا وجود لهذه الحقيقة، وأنها لم تفعل شيئاً يبرر انفجار الأزمة وهذه مكابرة لا مبرر لها، وهروب من الواقع.

انطلاقاً من كل ذلك يصبح السؤال مشروعاً عن مستقبل مجلس التعاون ربما يبقى هيكل المجلس لكن كيف؟ وبأي مواصفات؟ الآن احتمالات مستقبل المجلس باتت مفتوحة بعد أزمة قطر بشكل لم يكن مطروحاً من قبل والأرجح أن تغيرات ستحصل للمجلس، ونظامه ودوره بعد الأزمة قد تخرج منه قطر وقد تجمد عضويتها. وأيضاً قد تتفتق الأمور عن حل يبقي قطر كما هي عضو في هذا التكتل وهذا طبعاً هو الخيار الأفضل لكنه يتطلب من قطر شجاعة مواجهة الذات، ومواجهة الواقع، إلا إذا كانت لا تأخذ المجلس على محمل الجد، وتتخذ منه غطاء لأمور لا علاقة لها بالمجلس ومصالحة الاستراتيجية.

علينا أن ننتظر القمة الخليجية في ديسمبر القادم لأنها ستعطي مؤشرات أوضح عن مستقبل المجلس وحتى ذلك الحين في تصوري أن هناك تغيرات في نظام المجلس لم يعد مجديا التساهل حيالها بعد إنفجار الأزمة الحالية من بينها: إنشاء محكمة عدل للفصل في الخلافات بين الأعضاء، ووضع نظام إقليمي يحكم تواجد قواعد عسكرية أو استدعاء قوات من خارج المجلس، وضع معايير وضوابط تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وتحريم أن تكون علاقة أي دولة عضو بدول أو كيانات أخرى تتعارض مع مصالح وأهداف المجلس الموضوع الأخير كان في صلب اتفاق الرياض، والاتفاق الإلحاقي له لكنه لم يصبح جزءا من نظام المجلس.

= لسنوات طوال ظنت الشعوب الخليجية أن عمان الأكثر تهديداً بقطع العلاقات مع بقية دول الخليج .. كيف تحولت الأمور بهذه السرعة إلى قطر؟

- تختلف عمان عن قطر في ثلاثة أمور، الأول أنها لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، خاصة دول مجلس التعاون، والثاني والأهم أنها لم تتورط في مؤامرات كما فعلت وكشفت عنه تسجيلات أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة، الأمر الثالث أن عمان تتبنى سياسة النأي بالنفس عن خلافات الدول العربية، وهي في هذا الموقف تلتزم تقريباً بمسافة واحدة من جميع الدول، ولا يعني هذا طبعاً أن عمان لديها نظرة واحدة لجميع الدول لكن حساباتها السياسية تتسم بالحذر في عدم الكشف عن ذلك علناً السياسة القطرية على النقيض في كل هذه الأمور، هذا الاختلاف بين الدولتين هو السبب الأهم وراء تطور الأمور على النحو الذي نراه مع قطر وليس مع عمان.

= أغلب النخب الخليجية اكتفت باتخاذ مواقف دولها والترويج لها، ما دور المثقف الخليجي وقادة الرأي العام برأيك إزاء تلك الأزمة؟ وهل يلزم في تلك المرحلة التأكيد على نقاط الخلاف بحثاً عن حل أو العمل على التهدئة بين كافة الأطراف؟

- من مظاهر النضج السياسي والفكري أن يكون هناك أكثر من رأي في الأزمة، وألا يكون الجميع نسخاً مكررة لبعضهم الآخر، الركيزة الأولى والأهم في دور المثقف بشكل عام أن يكون مستقلاً في مرئياته ومواقفه وأن يكون مؤيداً لحكومته في هذا الموقف أو ذاك أو مختلفاً معها، ليس هو المهم بحد ذاته دائماً، الأهم من ذلك ما هو مصدر ومبنى هذا التأييد أو الاختلاف من معلومة ذات مصداقية، وتحليل متماسك ومتوازن، ووضوح هدف، التأييد أو الاعتراض من أسهل الأمور، والسؤال كيف تبني هذا أو ذاك، وكيف تعبر عنه؟ لكن أن يتماهى موقف المثقف مع موقف حكومته في كل شيء، وبمناسبة ومن دون مناسبة، فهذا يعني أنه فقد استقلاله وحريته، وقد لا يكون صادقاً في موقفه.

= بينما يرى الجميع أن المشروع الإيراني يقوم على تصدير الثورة، رأيتم أنها ليست كذلك، وأنها تعمل على تصدير الطائفية، ما الفرق بينهما وما مقومات هذه الرؤية؟

ـ دعيني أسأل من يقول بذلك؛ ما هي الثورة التي صدرتها إيران للعالم العربي؟ الثورة مفهوم إيجابي، يمثل التطلع نحو المستقبل، مستقبل أفضل. العصر الحديث بكل إنجازاته كان نتيجة للثورات الفكرية، والعلمية والتكنولوجية، والسياسية التي حدثت بالتتالي في أوروبا والولايات المتحدة وغيرت وجه التاريخ إلى ما نعرفه الآن. صدرت هذه الثورات للعالم مفهوم الدولة الوطنية، والفصل بين السلطات، والقانون الدولي، وقيم الإنسان المواطن، وحقه الطبيعي في الحرية، والتقدم العلمي والتكنولوجي..إلخ. من يقول بأن إيران تصدر ثورة إما أنه لا يفهم معنى الثورة، أو لا يفهم طبيعة النظام الإيراني، أو لا يفهم كليهما معاً.

إيران لا تملك ثورة ولا شيئاً قريباً من ذلك قابل للتصدير صحيح أن إيران شهدت عام 1979 ثورة لا أحد يشك في ذلك لكن هذه الثورة تختطفت على يد رجال الدين هؤلاء يريدون أن يأخذوا إيران والمنطقة معهم أربعة عشر قرناً إلى الوراء، إلى مفاهيم الإمامة، وعصمة الإمام، وولاية الفقيه، بأي معنى يمكن أن يكون هذا ثورة؟

القول بأن إيران تصدر الثورة، يعني أن داعش تصدر الثورة أيضاً، والإرهاب يصدر الثورة، لا فرق، أي منطق بات يحكمنا في هذه المرحلة؟ هل جاءنا من إيران غير حزب الله، والحشد الشعبي، وعصائب أهل الحق، وعشرات الميليشيات من كل حدب وصوب؟ هل جاءنا من إيران إلا إعادة بعث الطائفية، وتحويلها إلى مؤسسات وميليشيات، ونصوص دستورية حاكمة، وعملية سياسية يراد لها أن تتمدد عبر الأراضي العربية؟ هذه ردة وليست ثورة، ومدخل لتدمير الدول، وتقسيم المجتمعات، ونشر الخراب، وهذا ما يحدث بالفعل في العراق وسوريا والدور المركزي لإيران في ذلك، كيف أصبح تصدير الطائفية والميليشيات وخراب الدول ثورة عند البعض؟!! لا أعرف.

= عرف عنك طرحك الجريء في الكتابة، وتتبعنا توفقك عن الكتابة في صحيفة الحياة أو ما أسميته في لقاء سابق بـ"الزحلقة" عام 2003، وكنت قد أشرت في اللقاء إلى أن البعض يبني على جرأة الطرح أنك لا تدين بالولاء لوطنك. كيف تفسر الأمر؟ انعدام الحريات الصحفية.. قلة وعي الجمهور ومنهم صناع القرار الإعلامي متأثرين بمواقف صانع القرار السياسي؟!! ولماذا يستخدم سلاح التشكيك في الولاء الوطني ضد كل من يطرح رأياً مغايراً؟

- من يعتبر أن الموقف النقدي يعبر عن عدم ولاء للوطن يخلط عن عمد أو عن جهل بين النفاق والولاء ومن يرفض الرأي المغاير لأنه كذلك يرفض حقيقة التعددية كمكون طبيعي للمجتمعات والدول المنافقون هم الأقل ولاء لذلك من مصلحتهم وضع الجميع في سلة، أو سفينة واحدة حتى تضيع وتختفي ملامحهم وعلاماتهم داخل الحشد.

أن تنتقد من منطلق مصلحي شخصي أو آني، أو منطلق عنصري أو طائفي، أو لمجرد أنك معارض للدولة شيء، وأن تنتقد من منطلق مبدأي، إنساني أو وطني شيء آخر، وهذا أمر لا يراه، أو لا يريد أن يراه المنافقون، طبعاً النقد ليس دائماً أو غالباً مصيباً، لكن الخطأ في إطار هذه المعادلة جزء من حرية التعبير وحرية الرأي، شرط أن تكون هذه الحرية في إطار الدولة والقانون، والاستعداد لتقبل نقد الآخرين كحق لهم، كما تطالب به لنفسك في الإطار ذاته، من هذه الزاوية يأتي دور غياب الحريات أوالضيق بهافي توفير مساحة للمزايدة بالولاء للوطن بطريقة تفتقر للأخلاق والعدل والمسؤولية.

= اللحمة الوطنية في كل دولة تقوم على تماسك النسيج الوطني فيها بمعزل عن أديان وعقائد مكوناته. إذا أسقطنا ذلك على التجربة الخليجية، هل يمكن القول إننا شعب خليجي متلاحم؟ وكيف يمكن للجهود الرسمية الخليجية أن تسهم في تحقيق ذلك؟

- لدينا عناصر ومكونات أن نكون شعباً متلاحماً لكننا متوزعون بين دول لاتزال لم تغادر نهائياً مرحلة التأسيس، لتصبح كيانات صلبة تحتكم لمنطق الدولة، ولا يمكن أن نكون شعباً واحداً متلاحماً إلا في إطار سياسي واحد، وحدوي أو فيدرالي أو كونفيدرالي يمكن للجهود الرسمية أن تساهم في تجاوز كل ذلك بتعزيز منطق الدولة وإعطائه الأولوية على غيره في العمل وخطط التنمية.