في مثل هذا التوقيت من العام 1981، توافق زعماء دول الخليج العربية على إنشاء كيان جامع لطموحاتهم في التكتل، ولتطلعات شعوبهم في الوحدة، وإثر مرور 33 عاماً على إنشاء المجلس، يبدو مهماً قراءة أهم المنجزات التي حققها على الصعد المختلفة، والعراقيل التي تعترض مسيرة تطوره المباركة للوصول لوحدته الكاملة والمنشودة، والمستقبل الذي ترنو إليه دوله وشعوبه وسط التحديات التي تواجهه، خاصة أن احتفال هذا العام بذكرى مرور ثلاثة عقود على إنشاء المجلس يتزامن معه عدد من التطورات والمستجدات المهمة على صعيد الأوضاع بمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط والعالم بأسره.
وليس من قبيل المبالغة ـ أو التكرار ـ القول إن من بين أبرز ما حققه المجلس من تطور خلال العقود الثلاثة الماضية ليس فقط ما يتعلق بقدرته على الاستمرارية، ونجاحه في مواصلة أعماله المطلوبة منه رغم الأنواء التي مر ومازال يمر بها، ما جعله محط أنظار العالم أجمع باعتباره مؤسسة إقليمية قوية تضارع نظيرتها الأوروبية والآسيوية..
وإنما لأن المجلس تمكن بفضل جهود قادته الدءوبة ورؤاهم الحكيمة، فضلاً عن تماسك شعوبه وأواصر القربى والمصير المشترك الذي يربطهم، من الظهور أمام العالم أجمع ككيان تفاوضي واحد بإمكانه التعبير عن دوله وحماية مصالحها ومواطن نفوذها، وتجسيد آمال مواطنيه وتطلعاتهم في غد مزدهر، وتمثيل أحلامهم في وطن خليجي كبير قادر على أن يستوعب أمنياتهم اللامتناهية في المواطنة الخليجية ويحتوي مقدراتهم ويوجهها التوجيه الأمثل بما يخدم مصالحهم، وبما يعود بالنفع عليهم وعلى أبنائهم في مستقبل الأيام القادمة.
جهود التعاطي مع التحديات
يبدو مهماً هنا إبراز عدد من التحركات التي تعكس مجمل التطور الذي تشهده المنطقة بملفاتها الشائكة وجهود دول مجلس التعاون للتعاطي معها، خاصة خلال السنوات القليلة الماضية، والتي ازدادت كثافة في الفترة الأخيرة، حيث يلاحظ مثلاً تصاعد التحديات الأمنية، خاصة فيما يتعلق بالإرهاب ذي الوجه الديني، وبروز عدد من المعضلات السياسية التي باتت تلقي بظلالها على أوضاع المنطقة ككل بالنظر إلى مسارات التطور التي تأخذها حالياً عمليات التحول السياسي في بعض الدول، علاوة على سعي بعض الدول لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، التي يمكن أن تتسبب في تغيير موازين القوى بالمنطقة، وتفتح باباً واسعاً للتأثير سلباً على أمن شعوبها واستقرار دولها.
وما من شك أن جملة هذه التحديات فرضت على دول التعاون العمل معاً وبشكل مضاعف لتنسيق الجهود والمواقف لتحقيق متطلبات الأمن الضرورية لدول المجلس، خاصة مع دول المجتمع الدولي الكبرى المعنية بالحفاظ على مقومات الاستقرار العالمي، ومنها الولايات المتحدة، حيث يلاحظ تلك التحركات الخليجية المتواصلة سواء فيما بينها أو مع أقطاب النظام العالمي ومؤسسات المجتمع الدولي المختلفة لتأمين المصالح الحيوية لدول الإقليم وتجنيبه التوترات التي تحدق به من جميع الجوانب والأطراف.
وفي هذا الشأن تبرز أهمية العديد من الاجتماعات التنسيقية، ومنها: الاجتماع التشاوري الأول لمجلس الدفاع المشترك لوزراء الدفاع بدول المجلس، والذي انعقد منتصف الشهر الحالي بجدة، وبحضور وزير الدفاع الأمريكي الذي كان يزور المنطقة خلال نفس الفترة، لبحث السياسات والخطط الدفاعية المناسبة التي تعزز من أمن الخليج الإقليمي واستقراره. وأكد هذا المعنى الأمين العام لمجلس التعاون، الذي أشار إلى ضرورة «بناء منظومة دفاعية قادرة على الدفاع عن دول المجلس وحماية استقلالها وسيادتها، والدفاع عن مكتسبات شعوبها»، مشيراً إلى أن من أهم إنجازات المجلس على هذا الصعيد: «تأسيس قوة درع الجزيرة، وإنشاء القيادة العسكرية الموحدة، ومركز العمليات البحرية الموحد، ومركز العمليات الجوية، والدفاع الجوي الموحد، واستمرار التنسيق المشترك في كافة المجالات العسكرية، ومواصلة التدريبات والتمارين المشتركة لرفع الجاهزية القتالية، إضافة إلى إقرار التشريعات القانونية الأمنية كاتفاقية الدفاع المشترك، واتفاقية مكافحة الإرهاب، والاتفاقية الأمنية»، وغيرها.
ومن ذلك أيضاً، الاجتماع التشاوري السادس للجنة العسكرية العليا لدول مجلس التعاون الخليجي الذي عقد بدولة الكويت مطلع مايو الحالي، وتطرق للعديد من القضايا التي ستسهم في تعزيز مستقبل السياسة الدفاعية الجماعية، وتقوية التنسيق في مجالات التعاون العسكري بين الدول الأعضاء، وتدعم من بناء القوة الذاتية الخليجية.
الاقتصاد قاطرة العمل المشترك
في هذا الجانب، لم تدخر دول التعاون أي جهد للارتقاء بأركان بنائها الاقتصادي باعتباره قاطرة العمل المشترك الذي يستطيع تحقيق قفزة هائلة في مسيرة التعاون الخليجي الذي يهدف إلى الوصول لمرحلة التكامل الكامل، ولعل من المهم هنا الإشارة إلى نتيجتين مهمتين على هذا الصعيد، والتي تعكس نجاح دول المجلس في تذليل قدر كبير من الصعوبات التي اعترضت طريقه طوال مسيرته، الأولى: بروز دور رائد للمجلس ككتلة تفاوضية واحدة وكبيرة بإمكانها التفاوض مع التكتلات الإقليمية والدولية للحصول على تسهيلات وميزات أكبر لصالح المنطقة وشعوبها. الثانية: الحوارات والمنتديات التي ينظمها المجلس مع الكتل والتجمعات الشبيهة في أفريقيا وآسيا وأوروبا، فضلاً عن الدول الكبرى، لا سيما النامية منها، والتي لم يكن لتنعقد دون أن يكون للمجلس ثقله ومكانته على المستويين الإقليمي والدولي، علاوة على الثقة والتقدير الذي بات يحظى به في الأوساط المختلفة باعتباره مؤسسة كبيرة بإمكانها خلق وإيجاد فرص استثمارية هائلة وتحقيق استفادة متبادلة مع الدول بأسرها،لا سيما منها تلك التي يمكن أن تفيد دول التعاون، وكان آخر مثل هذه الاجتماعات الدورة الأولى للمنتدى الاقتصادي والتعاون العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان الذي استضافته الرياض مطلع شهر مايو الجاري باعتباره شهر التأسيس والاحتفال بإنشاء المجلس.
يشار هنا إلى أن إنجازات واعدة تنتظر دول المجلس من جراء النجاح في إرساء البنى الأساسية للتعاون الاقتصادي المشترك، وإن كان الأمر بحاجة لمزيد من الجهد للوصول للعملة النقدية والبنك المركزي الموحد، خاصة بعد النجاح في إعلان السوق الخليجية المشتركة، وإقرار العديد من الأنظمة والتشريعات التي تسهل عملية تنقل السلع والبضائع والأفراد، فضلاً عن الاستثمار المشترك الذي بات واحداً من الآليات المهمة التي اعتمدتها دول المجلس ورجال الأعمال بها لتعزيز فكرة المواطنة الخليجية المشتركة. وتجري عملية التنسيق الخليجي في هذا الجانب على قدم وساق، ولعل انعقاد اجتماع لجنة التعاون المالي والاقتصادي لدول مجلس التعاون الخليجي التي دعت إلى تفعيل الاتحاد الجمركي بدول المجلس والتي حظيت بموافقة كافة الدول المشاركة للمرة الـ 98 في تاريخها، واجتماع لجنة التعاون التجاري الخليجي بحضور وزراء تجارة الدول الأعضاء للمرة الـ 49، والاجتماع الـ 38 لوزراء الصناعة، اللذين انعقدا بالكويت خلال الشهر الجاري، وكذلك انعقاد الاجتماع العاشر للجنة رؤساء هيئات الأسواق المالية بدول مجلس التعاون، وغيرها، يعد تعبيراً واضحاً عن ذلك التنسيق الكبير القائم بين دول المجلس في الجانب الاقتصادي، والذي يحتل أولوية قصوى في رؤى القيادة الحكيمة لدول التعاون، وهي الاجتماعات التي تكشف عن مستوى عال من المتابعة والتشاور الخليجي في الجانب الاقتصادي، والذي يستهدف إرساء المقومات اللازمة لعملية التكامل الاقتصادي الخليجي.
المورد البشري ومستقبل التنمية
للعنصر البشري أهميته في مدركات صانع القرار بدول التعاون الخليجي، ويحظى المواطن بأهمية كبيرة تجعله واحداً من الموارد الحيوية لدول المنطقة، بل ويمكن اعتباره المقوم الرئيس الثالث بجانب الأمن والتنمية في سياسات دول الخليج العربية للنهوض كدول كبرى في الفترة القادمة. وواقع الأمر أنه لا تغفل أي برامج أو خطط خليجية تم تبنيها خلال العقود الثلاثة السابقة عن تنمية قدرات هذا العنصر المهم وتطوير مهاراته وتوفير مقومات الحياة الضرورية له ولأسرته، ولعل موقع الإنسان الخليجي في تقارير التنمية البشرية الدولية التي تصدرها الأمم المتحدة وغيرها تعكس هذا المعنى بجلاء.
ولا شك أن هذا التطور يجد دليله في المستوى التأهيلي والعملي الذي يتمتع به المواطن الخليجي الآن في الكثير من المواقع والأوساط، حيث التجارب والكوادر والخبرات الوطنية التي تحفل بها الكثير من المواقع، فضلاً عما تتمتع به بلدان الخليج العربية ذاتها من ثقة جعلتها محط أنظار العالم أجمع سواء لاستضافة أو لتنظيم الفعاليات المختلفة، بل وجعلتها مقصد وموضع جذب سياحي في أجندة السياحة العالمية. وهنا تبرز أهمية الإشارة لنتائج مشروعات التنمية المستدامة وبرامج الرفاهة التي سعت وتسعى دول التعاون لتحقيقها حتى الآن، والتي أسفرت في الحقيقة عن بروز دور الإنسان البحريني كعامل رئيس ومحوري في عملية التنمية وباعتباره الأداة الضرورية التي يمكن أن تخرج العمل الخليجي المشترك إلى آفاق أكثر رحابة وبما يلبي تطلعات قادة وأبناء شعوب المنطقة.