رغم أن التفكير الاجتماعي قديم قِدَمَ الإنسان نفسه، إلاَّ أن الاجتماع الإنساني لم يصبح موضوعًا لعلمٍ إلا في فترة لاحقة، وكان أَوَّل مَنْ نَبَّه إلى وجود هذا العلم، واستقلال موضوعه عن غيره، ووضع أسسه، وابتكره، هو العلاَّمة المسلم ابن خلدون!.
ذلك ما يؤكد عليه الأكاديمي العربي الباحث د.راغب السرجاني، ومفكرون وباحثون عرب، في ذكرى مولد بن خلدون الذي يصادف اليوم 27 مايو، مشيرا السرجاني الى ان بن خلدون صرَّح في عبارات واضحة أنه اكتشف علمًا مستقلاًّ، لم يتكلَّم فيه السابقون؛ إذ يقول: "وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا". ويقول أيضًا: "واعلم أن الكلام في هذا الغرض مُسْتَحْدَث الصنعة، غريب النزعة، أَعْثَر عليه البحث، وأدَّى إليه الغوص... وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري! لم أقف على الكلام في منحاه لأحدٍ من الخليقة، ما أدري: ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظنُّ بهم؟ أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض، واستوفوه، ولم يصل إلينا؟"
ويضيف د.السرجاني ان بن خلدون لم يكتفِ بذلك، بل دعا القادرين إلى استكمال ما نقص منه، فقال: "ولعلَّ مَنْ يأتي بعدنا -ممن يُؤَيِّده الله بفكر صحيح، وعِلْـمٍ مُبِينٍ- يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفنِّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله، وما يُتَكَلَّم فيه، والمتأخِّرُون يُلْـحِقُون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل". وإضافةً إلى ذلك فإن مقدمته شملت على أقلِّ تقدير سبعة من فروع علم الاجتماع المعاصر، ناقشها ابن خلدون في وضوح تامٍّ.
عبقرية لا نظير لها
من جانبه يؤكد المفكر البحريني د.محمد جابر الأنصاري أن بن خلدون: علامة ورحالة وروح عصر وعبقرية عربية، لم يَجُد الزمان بمثلها. هو المؤسس الأول لعلم الإجتماع، ومجدد علم التاريخ، ورائد لفن الترجمة الذاتية وعالم راسخ في الحديث ومبدع في دراسات التربية، وله أسلوب متميز في الكتابة العربية، مشيرا الى ان ما رآه ابن خلدون، برؤية نافذة حقاً، الى السوسيولوجيا السياسية العربية للعرب، ما زال الكثير منه مترسباً بقوة الى يومنا، رغم "قشور" الحداثة، بل العولمة، التي تحاصر المجتمعات العربية.
ويضيف د.الأنصاري: عندما تأملت في العولمة لأول مرة، قبل عقد من الزمن، ذهب فكري حالاً الى تلك "العصائب" والقبائل، وتساءلت: ماذا ستفعل العولمة بهم؟ وماذا سيفعلون بالعولمة؟ بكلمة أخرى، كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى "الخصوصية"، وبينهما عصور وعصور، ليس من الزمن فحسب، وإنما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعيش، الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري.
ويتابع: سمع بابن خلدون الكثيرين من العرب، وتفاخروا به على عادتهم، ولكن مضامين فكره، كما تجلّت في (المقدمة) بشأن طبيعة المجتمعات العربية خاصة، لم تصبح جزءاً من تكوينهم الثقافي. ومالم تصبح جزءاً من هذا التكوين، فإن اغتراب العرب عن حقيقة مجتمعاتهم، سيترك لأمد طويل ضياعاً فكرياً لديهم، لا يمكن التقليل من خطره، مردفا: بن خلدون، من خلال المقدمة، يمكن الالتقاء به في هذه المرحلة في العراق، حيث "عصائبه" المتعددة تحاول الإتفاق على مشروع "دولة". ويمكن الالتقاء به في لبنان للاعتبار ذاته، وفي اليمن، بين قبائله المترددة بين إرثها العصبوي، ودولتها الحديثة، التي تحاول التحديث والتوحيد، بل إن ابن خلدون، يمكن الالتقاء به، من هذا المفهوم، في مصر، حيث الدولة على عكس المحيطين بها من "أحلاف قبلية"، مشرقاً ومغرباً، حقيقة قائمة: "سلطان ورعية"، حسب تعبير ابن خلدون!.
قواعد لقراءة التاريخ

بدوره يقول الباحث د. ياسر المشهداني بشأن مقدمة بن خلدون: يعتبر كتاب المقدمة لابن خلدون من أوائل المصادر التي استعرضت القواعد العامة لشرح قراءة التاريخ. فهو بحث تاريخي نقدي ، يختلف فيه مؤلفه تجاه من سبقه من المؤرخين الذين جمعوا الروايات والحوادث والأخبار دونما منهج خاص يفرق ما بين الأسطوري والحقيقي منها، فكانت الأحداث تروى على طبيعتها، وتنقل من دون تمحيص أو تدقيق. فلئن كان فضل المؤرخين القدامى في أمانة النقل وغزارة المادة التي ملأوا بها كتبهم، فإن ابن خلدون قد أضاف إلى ذلك فضلا آخر في ناحيتين، الأولى في تفريقه بين التاريخ وفلسفته، والثانية في إلحاحه وسؤاله الدؤوب عن العلل والأسباب للحوادث والوقائع ومحاولة الوصول إلى إجابات منطقية.
ويضيف: كانت المسألة الأساسية التي استحوذت على فكر ابن خلدون: كيف تنشأ الدول؟ وما عوامل ازدهارها؟ وما أسباب هرمها؟ واختلف الدارسون من القدامى والمحدثين في تفسير تدهور الحضارة العربية الإسلامية . فابن خلدون يرى أن الحضارة عموما لها عمر يبدأ بالمولد ثم الفتوة ثم الشيخوخة والموت. ويضيف أن ازدهار الحضارة مرتبط بازدهار العمران وأن عدوها الحقيقي يكمن في حياة البذخ والترف المؤدي إلى الانهيار. قال تعالى (وتلك الايام نداولها بن الناس).
ويتابع المشهداني: من بين القضايا ذات الصلة بنهوض وتدهور الحضارة تلك التي تتمثل بالعلاقة بين الحياة الحضرية وحياة الصحراء. وتدرس المقدمة تأثير كل من الحياتين على الطبيعة الإنسانية حيث يساعد المثال التالي على فهم دورة الحضارات. وقدم ابن خلدون مفهوماً متميزاً لهذه العلاقة. فهو يقول أن: "البدو يقيدون أنفسهم بالحصول على الحاجات الأساسية في حياتهم ولا يستطيعون تجاوزها، فيما الشعوب الحضرية تهتم بالحصول على وسائل الراحة والرفاهية في محيطها وعاداتها. بالتأكيد إن الضروريات الأساسية تسبق في الأهمية وسائل الراحة والرفاهية. الحاجات الأساسية، في هذا السياق، هي الأولية، فيما الرفاهية ثانوية. وبالتالي فإن البدو هم الأساس ويسبقون المدن والشعوب الحضرية".