كتب - موسى عساف:
«دربي اليوم لا تختلف كثيراً عن درب كل يوم.. بين الصالون وبيت جدي تنقسم حياتي قسمين، بين الصالون الذي بنيته بحسب مزاجي وذوقي لأسكن إليه، وبيت جدي الذي عشت فيه عمراً طويلاً تنشطر روحي شطرين، بين عالم من البياض أحلم بالانصهار فيه، وعالم من السواد أحلم بالانسلاخ عنه تتشتت مشاعري بين نقيضين، بين جوري التي خلقتها وجارية التي خلقها القدر تنفصم هويتي بين امرأتين!» (رواية جارية، الصفحة 79).
تعود الروائية البحرينية الشابة منيرة سوار مرة أخرى لتطرق باباً جديداً من الأبواب المسكوت عليها في المجتمع، من خلال روايتها الثالثة «جارية»، بعد روايتي «نساء المتعة-2008» و«حسين المسنجر-2012»، واللتين شكلتا لها انطلاقة حقيقية على أرض صلبة في الكتابة الروائية، تميزت بقدرتها على توظيف تراكمات تجربتها لكتابة أكثر نضوجاً، والقدرة على تطوير الذات ضمن سرد وأسلوب ولغة احترافية.
رواية «جارية»، والتي أنجزتها الكاتبة في إطار «محترف نجوى بركات» في دورته الثانية، إطلالة على عالم آخر نعيشه ولا نتكلم عنه، حيث فجرت لنا الكاتبة أولى مفاجآتها على صفحة الإهداء بقولها «.. وإلى أكثر الناس بياضاً، أصحاب البشرة السوداء».
حيث إن بطلة الرواية «جارية» أو «جوري»، حسبما تريد أن تكونه، تعاني من عقدة لون بشرتها الأفريقي، فتتصارع مع ذاتها ومع مجتمعها في محاولة للخروج من «عقدة النقص» التي تعاني منها، فتحاول أو تغير ما تستطيعه من حولها، لدرجة أنها صبغت صالون التجميل الخاص بها باللون الأبيض فقط، وأنشأت في داخلها قصة حب وهمية مع عامل الصالون اللبناني «هيثم»، ورفضت مجرد التفكير في ابن خالتها «عبيد» لأنه يذكرها بأصولها الأفريقية.
تتواصل أحداث الرواية لتكشف لنا سراً آخر من أسرار «جارية»، وهي عدم معرفتها بوالدها، الذي قيل لها إنه توفي وهي صغيرة، لم تفكر بالأمر كثيراً، حتى وإن أبدت بعض الاهتمام، إلا أن المفاجأة كانت في الصفحات الأخيرة بظهور هذا الأب من بين تراكمات ماضٍ عميق.
أحداث الرواية اتسمت في الغالب بالسرد السهل الممتع، والذي يجذب القارئ منذ الصفحات الأولى، ويظهر مقدرة الكاتبة على التنقل بين الأحداث ودعمها بقصص جانية بحرفية واضحة، وهو ما يمكن أن تتلمسه من خلال أسلوب السرد الذي اعتمده بالرجوع إلى الحدث الماضي. ووقعت الأحداث بين منطقة «الحجيات» والمنامة، واستطاعت الكاتبة توظيف البعد المكاني بشكل جميل، نقل القارئ إلى المكان دون تكلف وبسلاسة، وباستخدامها أسلوب السرد السهل لم تشعرنا الكاتبة بفقد أي عنصر من عناصر التواصل بين الأماكن والأحداث والحوارات، فعلقت عيوننا وعقولنا في انتظار الحدث التالي بتشويق جميل للغاية.
الرواية، وإن كان نقلة نوعية للكاتبة بعد روايتين، إلا أنه من الواضح أن الوقت كان عاملاً ضاغطاً عليها، فلم تستكمل بعد «عقد» الرواية، واتجهت إلى الحلول السهلة لها دون تعمق واستفادة أكبر من انشداد القارئ، لذلك جاءت النهاية باهتة بعض الشيء، ولم تلبِ الشغف الكبير الذي خلقته الأحداث، مكتفية بإنهاء كل قضاياها بشكل لم يرتقِ إلى أهمية الحدث.
بالإجمال تعد رواية «جارية» نقلة كبيرة للكاتبة الشابة، استطاعت من خلالها أن تطور أدواتها السردية واللغوية بشكل جميل، فجاء أسلوب الرواية ليعكس النضوج المتواصل للكاتبة وبشكل واضح، إضافة إلى تطور كبير في قدرتها اللغوية واستخدام جميل لبعض المفردات المحلية، ساهمت في تقريب جو النص من القارئ، وسمحت له أن يعيش في أحداثه وشخوصه بشكل مباشر، وأن يكون جزءاً من حدث ربما يراه يومياً عشرات المرات، لكنه لا يجرؤ على الدخول فيه أو الحديث عنه.