قال العرب قديماً «رأسمالك علمك وعدوك جهلك»، قف عند هذه المقولة لثوانٍ معدودة وتأمل، هل أنت من المؤيدين؟

أنا شخصياً من الذين يؤمنون أن العلم لمجرد العلم يعادل الجهل ولا يعلو إلى أي مستوى آخر، وقد يعترض الكثير على رأيي بحجة أن لا بد للمتعلم الانتفاع من علمه ولو بشكل بسيط أقلها على المستوى الشخصي. فلنتدبر هنا قليلاً، ما فائدة العلم غير المستفاد منه؟ العلم المتواجد في نفس واحدة تمتنع عن نشره بسبب الخوف من الناس الذين يمكن أن يعملوا به وبالتالي ينسبونه لأنفسهم، فيعمل هذا الشخص جاهداً ليوصد كل المنافذ التي يمكن أن يتسرب منها العلم المكنون به، ويبقى كالماء الراكد غير الصالح لشيء. وقد يظن البعض أنها مشكلة تواصل فقط، ولكن المشكلة أكبر بكثير من ذلك. فلننظر للموضوع من زاوية أخرى، ما حال الأمة التي ينتهج عدد كبير من أبنائها هذا السلوك، يمتنعون فيها عن المشاركة بأفكارهم وآرائهم وتبقى المعارف في حوزة مجموعة من الناس الذين يبخلون بها على من ساعدهم في بناء كيانهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»، وهذا يؤكد مدى أهمية نشر العلم والمعرفة.

للأسف هذه الظاهرة متفشية في مجتمعنا، على مستويات، منها المستوى الاجتماعي، والدراسي، والوظيفي. قد لا تكون بشكل ظاهر لكن الكثير منا لا يختلف بل يتفق على انتشاره. وتعتبر هذه الظاهرة آفة لها تأثير سلبي وخطير على التماسك المجتمعي وتطور وتنمية المجتمع.

قبل الشروع في الاستنكار، يجب طرح سؤال مهم في هذه الحالة، ما هي الغاية التي كان يرجوها أي متعلم من الأساس عند انخراطه في العملية التعليمية؟ هل تتمثل الغاية في حكم العادة والتأثيرات الخارجية؟! «جميع أفراد العائلة واصلوا التعليم العالي مثلاً»، أم للحصول على السمعة والشهرة؟! «كي يسمى دكتور أو مهندس أو أخصائي، مسمى يؤهله للحصول على منصب إداري» أو ربما لإضافة الجديد لبحر العلم وإفادة البشرية؟! والكثير من العلماء والفلاسفة تطرقوا لهذا الموضوع مثل أفلاطون الذي قال «غاية العلم خير» وهذا ما هو متوقع فالعلم وسيلة لرقي ونهضة الأمم.

في هذا الجزء سأركز على هذه الظاهرة في محيط العمل فقط. إن أهمية تطويع ما تعلمناه كأفراد لتطوير أمر لا يختلف عليه، وقد تطرق علم الإدارة على أن تطبيق مبدأ نقل المعرفة - Knowledge transfer - يساعد على الإنجاز والتطوير المؤسسي ويعتبر من أفضل الممارسات الإدارية التي يجب ترسيخها وإدراجها من ضمن قيم أي مؤسسة بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك يجب علينا أولاً فهم أسباب سلوكيات الموظفين الذين يفتقرون لهذا المبدأ وشحيح ينفي نقل المعرفة والخبرة والمشاركة الفعالة في محيط عملهم، وقد تكمن المشكلة في غاية التحصيل العلمي للموظف نفسه كما ذكر سابقاً، أو قد تتمثل في بيئة العمل غير الصحية التي لا تضمن الحقوق الفكرية للموظف، والشفافية في بيان المساهمات الفردية والجماعية لبلوغ الغايات وتحقيق الأهداف، وذلك عن طريق غياب السياسات التي تكفل هذا الحق، أو سوء الإدارة المؤسسية التي تتمثل في مسؤول لا يدافع عن حقوق الموظفين ولا يطبق مبدأ العدالة ويسلب الموظفين جهودهم عبر نسب كل نتائج إيجابية باسمه وحده، أو بسبب غياب الحافز والتشجيع وثقافة الشراكة وغيرها من الأسباب كثير.

من المهم أن نعلم أن مبدأ «نقل المعرفة Knowledge transfer»، يسعى إلى تنظيم المعارف وتوزيعها لكي يستفاد منها مؤسسياً وبشكل فعال، لتتاح للآخرين كي تستخدم في التنمية والتطوير. وكما ذكرنا آنفاً يجب الالتفات للدوافع المؤدية لهذا السلوك ومعالجتها بشكل بناء وسريع لكي لا تستشري هذه الآفة وتنتقل عبر الأجيال.

علم الإدارة قد أشار إلى وجود آليات وأطر تساعد في تعزيز مبدأ نقل الخبرات مثل التعرف على الأفراد الذين يمتلكون هذه المعارف والعلوم وتشجيعهم على المشاركة، ووضع نظم إدارية وإلكترونية تساعد على حفظ ونقل المعارف والخبرات، وصياغة سياسات تكفل الحقوق الفكرية للأفراد، والاهتمام بتدريب الموظفين على يد مدربين متخصصين ومتابعة إنجازاتهم التي تعتمد على نقل المعرفة والخبرات. في دراسة أجريت في إسبانيا عن تأثير «نقل المعرفة»، على الإنجاز المؤسسي ونشرت في عام «2013»، تبين وجود علاقة قوية بين الآليات المستخدمة لنقل المعرفة مثل «تعزيز الرؤية، ووجود البنية التحتية الإلكترونية، والإدارة القائمة على الكفاءة»، والأداء المؤسسي الإيجابي، وبالتالي المساهمة في التنمية والتطور الذي بدوره يساهم في تحقيق الازدهار المستدام الذي هو غاية كل المجتمعات والأمم.

* باحثة ومديرة التطوير الأكاديمي - بوليتكنك البحرين