لقد ظهر مصطلح الفوضى التشريعية للمرة الأولى في فرنسا وذلك ضد آثار رجعية الاجتهاد القضائي، وهي يعني بأن تشعب التشريعات وكثرتها لا يؤدي إلى توفير الحماية الأمثل لحقوق الإنسان بشكل عام، بل يؤدي بطبيعة الحال إلى الفوضى التشريعية والتي هي نقيض مبدأ الأمن القانوني أو ما يسمى مبدأ الثقة المشروعة، والذي يعدُّ أهم الأسس التي يقوم عليها بناء الدولة القانونية، لأننا سنكون أمام عدد من القوانين والمواد القانونية النافذة، المملوءة بالتضادات والتناقضات التي تسمح للحكم مرة بالاستناد إلى هذا القانون وتلك المادة والتعليمات، ومرة بالاستناد إلى قانون آخر ومادة وتعليمات أخرى مناقضة تماماً، الأمر الذي يجعلنا ندرك أننا أمام بنية تشريعية تفتقد وحدة الفلسفة والخلفيات، وتناقض تام للدستور والحقوق التي يمنحها، وهذا تعارض شديد يعطل وحدة الدستور من جهة، ويجدد دورة التعسف واستلاب الحقوق من جهة أخرى.

وحري بالذكر أن الأمن القانوني مبدأ متأصل بالقانون، وهو مبدأ دستوري، وقد اختلف الفقه في إسباغ القيمة الدستورية على المبدأ، فمنهم من اعتبره مبدأ دستورياً، ومنهم من أنكر ذلك، والبعض الآخر يسند هذا المبدأ إلى المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 الذي ينص على أن: «غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعة للإنسان التي لا يجوز مسها. وهذه الحقوق هي: حق الملك وحق الأمن وحق مقاومة الظلم والاستبداد».

تسعى تطبيقات الأمن القانوني إلى مراعاة إمكانية الوصول إلى القانون عبر وضوحه وبساطته، وهذا الوضوح يمكن الفرد من الوصول إلى حقوقه عبر استقرار مراكزه المختلفة، فهذا المبدأ يستوجب استقرار القواعد والمراكز القانونية للأشخاص. فيلتزم المُشرِّع بموجب هذا المبدأ بعدم مفاجأة أو مباغتة الأفراد وهدم توقعاتهم المشروعة بإصدار قوانين أو لوائح متعددة بطريقة فجائية مباغتة تصطدم مع التوقعات المشروعة للأفراد. وقد عانى هذا المبدأ التهميش مدة طويلة، لكنه عاد وظهر في الوقت الحالي أمام الفوضى التشريعية التي يعيشها العالم المعاصر والتي يتم فيها المناداة بضرورة تطبيق مبدأ الأمن القانوني باعتباره يشكل عنصراً فعالاً للوصول إلى الحق.

* همسة:

في ظل عصر التعدد التشريعي لنفس الموضوع والمضمون مع اختلاف بسيط للصياغة من آن إلى آخر، هناك موضوعات جوهرية قد غفل عنها المشرعون أتمنى أن تحتاز على اهتمامهم أيضا – فالتنوع ثروة تشريعية أيضاً – بدلاً من التركيز على موضوع واحد بتفصيلاته التي لا نقطة لها.

* نقطة حساسة:

كلنا نعلم بأن برامج الدراسات العليا «الماجستير والدكتوراه» تُدرِّس في الأوقات المسائية منذ الساعة 4 وحتى الساعة 8 مساءً. وكنت أرى زملائي من حولي على مقاعد الدراسة، منهم من يسمح له مسؤوله المباشر بالخروج في وقت مبكر في الساعة الواحدة ظهراً للاستعداد للتحضير للدراسة بعد كم العمل تشجيعاً له ورحمةً منه، وهذا هو المسؤول الملاك الذي يتمنى الجميع أن تكون له نسخة مكررة في كل جهة. وليس ذلك فحسب، بل تقوم الجهة نفسها بتحمل تكاليف دراسة الموظف تأهيلاً له علمياً وعملياً، وأود أن أخص بالشكر والتقدير كل من وزارة التربية والتعليم وهيئة الإفتاء والتشريع على خطواتهم المتقدمة لتحقيق نهضة الوطن بسواعده «شبابه».

ومن المسؤولين من لا إحساس ولا ضمير، فيقوم المسؤول بإعطاء الموظف أعمالاً «دبل» عند علمه بدراسة الأخير لبرنامج الدراسات العليا حقداً وغيرة، فأرى بعض زملائي من يتأخر على المحاضرة أو يغيب بشكل متكرر لضغط العمل عليه! أو من المسؤولين الذين يندرجون من نفس فئة لا إحساس ولا ضمير من لا يعير اهتماماً لاستئذان الموظفين المتكرر أو إجازاتهم المرضية التي تفوق المعدل الطبيعي، ولا حتى بوجودهم غير المرئي، فلاشك في أن هناك الكثير من الموظفين الذي يتم توظفيهم ليشربوا القهوة سبع ساعات فقط كالخشب المسندة، كل ذلك لا يعنيه، لكن عندما يأتي الموظف ليطلب الاستئذان للخروج المبكر لأجل التجهيز للدراسة، فإنه يتم التعامل معه بخشونة وتعسف وكأنه يطلب صدقة بالرغم من كون طلبه حقاً دستورياً، وليس ذلك فحسب، بل يتم استقطاع إجازاته السنوية حسب الساعات التي يقوم بالاستئذان منها من أجل هدف التعلم والعلم!

أشعر بالغيرة فعلاً من عدم وجود تشريع أو لائحة واحدة تنظم هذه المسألة بالرغم من جوهريتها.. بالرغم من طموح الدولة لتعزيز العملية التعليمية للشباب ومقابلة الجهات ذلك بالقصور التعسفي في تنفيذ تلك الرؤية القيادية الحكيمة. أتمنى من ممثلي السلطة التشريعية وديوان الخدمة المدنية الالتفات قليلاً إلى هذه المسألة لإضافة لمساتهم البراقة الفعالة فيها. فبالرغم من أن أغلب الوظائف لا تضع اعتباراً لمستوى الموظف التعليمي، حيث إننا نرى كثيراً اختلاف المستوى التعليمي للموظف عن المسمى الوظيفي له لاعتبارات غامضة جداً، لكن هذا ليس هو موضوعنا – حيث ان ذلك يقع في رقبة ومسؤولية ديوان الرقابة المالية والإدارية للتفتيش عن ذلك الخلل الموجود – إلا أنني أتمنى أن يتم معالجة هذا الموضوع بعين الحب والسلام في ظل تطبيق رؤيتنا الاقتصادية 2030 في تشجيع الشباب للتعلم والنهوض بالعلم وليس التضييق عليهم.