^ نام عيسى العيسى نومته الأبدية في قطر حيث كان يعمل في صحيفة كبرى من صحفها، بعيداً عن بغداد التي أحب. وعيسى العيسى، وإن كان يهرب من الأضواء، فهو صحافي رائد من كبار صحافيي العراق، تتلمذت على يديه أجيال من الصحافيين أكثرهم يشار إليه بالبنان الآن. منذ أكثر من شهر هاجمته الأمراض ورقد لأول مرة في حياته في مستشفى، وقبل ذلك كانت الأمراض تزوره، كما تزور الناس ويشفى منها كما يشفون، ويؤسفني أن حوائل حالت دون زيارتي له في قطر خلال وجوده في المستشفى، خصوصاً وأن علاقتي به تعدت كونه ابن عمتي إلى علاقة روحية ربطتنا منذ كنت صغيراً وعلى يديه تعلمت أن أخط حروفي الأولى في صحافة العراق. كان الدكتور عيسى العيسى في بداية حياته طموحاً ومن أذكى الطلبة وما إن تخرج من الإعدادية حتى اتجه إلى دراسة الطب، وكانت كلية الطب لا تقبل إلا أعلى الدرجات من الفرع العلمي في الدراسة الإعدادية، ولكنه سرعان ما تم فصله من هذه الكلية لأن أجهزة الأمن اكتشفت انتماءه إلى تنظيم قومي وأنه أحد المشاركين بتأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق، واستطاع في البداية الإفلات من قبضة الأمن ولجأ إلى بيتنا ولم تكن لتستضيفه إلا غرفتي الصغيرة فشاركني فيها، وظللت أذكّره كلما أراه بهذه القصة وأقول له مازحاً “إنه لم يكن يرحم صغر سني عندما لم يكتف باحتلال غرفتي، بل احتل أيضاً سريري واضطرني للنوم على الأرض”، وعلى الرغم من البرد القارس كان يرسلني إلى متجر قريب ليلاً لأجلب له شيئاً من الحلويات، وكان رحمه الله يضحك بعنف عندما يسمع مني ذلك ويروي لي أن ألبير كامو ذكر في رواية له أن أحد الأشخاص كان سجيناً وجيء بصديقه المريض ليسجن معه فتنازل له عن سريره واضطجع على الأرض من أجل صديقه المريض، وتساءل مع نفسه: ونحن من ينام على الأرض من أجلنا؟ اضطر العيسى أن يدرس الاقتصاد بعد العفو عنه، لكنه لم يترك ذلك التنظيم فاعتقل وهو في الكلية وكان أهلي يصطحبوني معهم عندما يذهبون لزيارته في سجن باب المعظم، وكان أكبر سجون بغداد قبل أن يتحول إلى مبنى لوزارة الصحة ومازال. وقبل قرابة شهرين اتصل بي العيسى هاتفياً ليخبرني بصدور روايته الأولى “غمرات العشق” التي أوجز فيها حياته ونضاله السياسي وسنوات دراسته في بودابست. والعيسى كان شاعراً ممتازاً أيضاً ولكنه ما كاد ينتهي من كتابة أية قصيدة حتى يقرأها مع نفسه مرة أو مرتين ثم يمزقها، وقيض لي مرة أن أخلّص قصيدتين مما كتب قبل أن يعدمهما ونشرتهما، ولو أني استطعت أن أخلّص الكثير من قصائده لكان لدي اليوم ديوان من أبدع دواوين الشعر. وحسب علمي فإن لدى العيسى روايات أخرى لم ينشرها لعدم اقتناعه بما يكتب على روعة ما يكتب من فكرة ومن أسلوب ومن مفردات، ولا أدري من استطاع أن يقنعه بنشر روايته التي لم يرحل عن عالمنا حتى رآها كتاباً مطبوعاً. صباح الثلاثاء الماضي الثالث من أبريل صحوت على جرس هاتفي المحمول يرن بإلحاح ووجدت اسم الدكتور عيسى العيسى ففرحت أنه تماثل للشفاء وأن أول عمل يؤديه هو أن يتصل بي، ولكني صعقت وأنا أسمع صوت ابنته السيدة نوار تبكي وتصيح: مات أبي يا عم.. تلجلج لساني حتى أني لم أقل لها عظم الله أجوركم، فالعيسى الذي كان قدره أن يموت في أرض بعيدة عن بغداده كان يحلم أن يحتضنه ثرى بغداد، ولكنه غادر عالمنا وذيول الاحتلال لم تغادر بغداد. رحمك الله يا أبا نوار فقد أعطيت لوطنك الكثير وتعلمنا على يديك ونحن صغار مبادئ الوطنية والعطاء للوطن حتى لو عشنا فقراء حتى نموت.