صدرت وثيقة «استراتيجية الأمن القومي الأمريكي» في خضم المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالمين العربي والإسلامي بخصوص القدس، لما لها من مكانة عظيمة في نفوس وعقول وقلوب الشعوب العربية والإسلامية. وأمام تحدٍ سافر وتهديدات غاشمة من قبل الجانب الأمريكي وممثليه في الأمم المتحدة. ولمن لا يعرف فإن وثيقة «استراتيجية الأمن القومي الأمريكي» تصدر وفق قانون أقره الكونغرس الأمريكي عام 1986 سمي بقانون «جولد ووتر نيكولس» والذي يلزم الرئيس الأمريكي بتقديم تقرير سنوي للكونغرس عن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي -مع العلم أن هذه الاستراتيجية معدة لأربع سنوات مقبلة- موضح بها أهداف ومصالح الدولة، واقتراحات استخدام عناصر القوة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والسياسية وغيرهم، وبالتالي وضع الميزانيات اللازمة لعمل الجهات المعنية بتنفيذ الاستراتيجية، من وزارة الخارجية، والدفاع، وغيرها.

وتدور الاستراتيجية حول أربعة محاور، من أجل تحقيق المصالح الأمريكية، مطبقة لشعار «أمريكا أولاً»، هي: أولاً، حماية الولايات المتحدة الأمريكية وشعبها من التهديدات، وخصوصاً من أخطار الإرهاب والهجرة غير الشرعية. وثانياً، تعزيز الاقتصاد والازدهار الأمريكي. وثالثاً، استعادة دور أمريكا ونفوذها في العالم. ورابعاً، ضمان السلام من خلال القوة العسكرية المتفوقة.

أين إذاً الصين من هذه الوثيقة المهمة؟

اعترفت الاستراتيجية التي أعلنها لأول مرة الرئيس الأمريكي شخصياً أمام الإعلام والرأي العام، بوجود منافسة قوية من قبل روسيا والصين لأمريكا. وهما يشكلان لاعبين أساسيين على المستوى الدولي، ويعملان على تحويل موازين القوى لخدمة مصالحهما، والحد من النفوذ الأمريكي وزعزعة سيطرته على العديد من المناطق حول العالم. ففي تقييم الصين، تبرز الاستراتيجية امتلاك الصين لقوة اقتصادية متفوقة تولد فوائض مالية كبيرة، ولكن من حيث القوة العسكرية فإنها تتصور أنها لا تمكنها من لعب دور شامل ومؤثر على مستوى العالم.

لقد كانت رؤية الرئيس الأمريكي محقة في التفوق الاقتصادي الصيني، إذ بلغ حوالي 115% من حجم الاقتصاد الأمريكي. وبلغ حجم الناتج المحلي للصين عام 2017 حوالي 80 تريليون يوان «الدولار الأمريكي يساوي 6.6 يوان تقريباً»، وتم خلق 13 مليون فرصة عمل جديدة في المدن والبلدات. وتفخر الصين بأنها صاحبة أكبر احتياطي للنقد الأجنبي في العالم. وأنها أكبر دولة في تجارة السلع والبضائع في العالم، وأكبر شريك تجاري لأكثر من مائة دولة ومنطقة حول العالم.

وفي مجال الابتكار العلمي والتكنولوجي والهندسي، يتخرج من الجامعات الصينية أكثر من مليون وثلاثمائة ألف مقابل ثلاثمائة ألف في أمريكا «حوالي أربعة أضعاف عدد الخريجين في الولايات المتحدة الأمريكية»، وبدأ القمر الصناعي «هوي يان» يحلق في الفضاء، كما حلقت في السماء طائرة الركاب الكبرى سي 919، وتم ابتكار الحاسوب الكمي، وجرى الاختبار على زراعة الأرز بالمياه البحرية، وتم تدشين أول حاملة طائرات محلية الصنع، وأنجزت منزلقة «هاي يي» مهمة الرصد في عمق البحار، ونجحت العملية التجريبية الأولى لاستخراج الجليد القابل للاحتراق من البحر، وبدأ بشكل رسمي بناء المرحلة الرابعة من ميناء يانجشان الأوتوماتيكي، واكتمل المشروع الأساسي لجسر هونغ كونغ- توهاي- ماكاو، وجرت القطارات على الأراضي الشاسعة للوطن. كما عبر عن ذلك الرئيس الصيني شي جين بينج في كلمته بمناسبة حلول السنة الجديدة.

وتفاخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ببلوغ الإنفاق العسكري الأمريكي 700 بليون دولار لعام 2018. في حين أن الإنفاق العسكري الصيني أقل من 140 مليون دولار أمريكي. ونسي ترامب أن الصين تؤمن بأن العالم أسرة واحدة ولا مناص عن سياسة الفوز المشترك والاستفادة المشتركة والسعي إلى التعاون، لبناء مجتمع يسوده الخير لكافة شعوب العالم. وتدافع عن سلطة الأمم المتحدة ومكانتها، وتنفذ بشكل إيجابي واجباتها ومسؤولياتها الدولية -فقد قدمت مساعدات خارجية تجاوزت أربعمائة مليار يوان، وأكثر من أحد 10 آلاف دورة تدريبية لأفراد من الدول النامية- وتلتزم بتعهداتها الخاصة بمواجهة تغيرات المناخ، وتدفع لتحقيق مبادرة الحزام والطريق، ومن أجل مستقبل أكثر ازدهاراً وأمناً للبشرية جمعاء.

تسعى الصين نحو مزيد من المساواة والتكافؤ في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، بما يحقق المصالح العليا للدولتين. وأشك في حدوث صدام بين الدولتين في المدى القصير، وإنما ستسعيان نحو تخطي الصعاب، والتعاون وحل القضايا الخلافية فيما بينهم.

وستظل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي فيما يتعلق بالصين محك اختبار للقيادة الأمريكية، وتطلعاتها وآرائها ومعتقداتها الشخصية. وأعتقد أن هذه القيادة لن تعيد المجد والنفوذ لأمريكا مرة أخرى كقوة عظمى وحيدة، وإنما ستشاركها الصين.

* كاتب وأكاديمي مصري