إن التعلم من تجارب المجتمعات الأخرى في تخطيط وتنفيذ المشاريع الصحية وعوامل النجاح والفشل فيها تدفع عجلة التطور في أي مجتمع، فالرعاية الصحية الأولية التي تتبناها جميع دول العالم الآن كقاعدة أساسية للصحة ليست وليدة مؤتمر الماتا الذي عقدته منظمة الصحة العالمية في كازاخستان حالياً - «في الاتحاد السوفيتي سابقاً» - عام 1978 وحده، ولكنها نتاج تجارب عديدة انبثقت من دول مختلفة وعبر سنوات طويلة. هذه التجارب صاحبها شيء من الفشل وكثير من النجاح وتعلم منها المخططون الصحيون في أنحاء العالم. فالصحة حق إنساني أساسي وأن على الجميع المشاركة في التخطيط للرعاية الصحية وتطبيقها.

من النماذج التي كانت جذورها في مجتمع وامتدت فروعها إلى أماكن أخرى من العالم وكان لها دور بارز في حل بعض المشاكل الصحية وارتفاع معايير الصحة في البلدان الفقيرة والنامية، كما تعتبر أحد الروافد لمؤتمر الماتا هي تجربة الأطباء الحفاة في الصين ففي عام 1965 انتقد الزعيم الصيني «ماو»، وزارة الصحة في بلاده لعجزها عن تقديم الرعاية الصحية اللائقة للمناطق الريفية، كما أنه أدرك أن زيادة الميزانية للصحة لن تعطي النتائج السريعه التي يرغب بإحداثها. فاعتمد طريقة تختلف عن الطرق التقليدية حيث أمر بتدريب ما عرفوا باسم «الأطباء الحفاة». إن «الأطباء الحفاة» هو مصطلح يشير إلى مجموعات من المزارعين «عمال الصحة» الذين انتشروا جنوب الصين في مزارع الأرز وكانوا يعالجون المزارعين مجاناً. إن هؤلاء المزارعين في حقيقة الأمر تلقوا الحد الأدنى من التدريبات الطبية الأساسية في النظافة الصحية والصحة الوقائية وطرق علاجية بسيطة للأمراض الشائعة في تلك الأماكن. لقد كان «الأطباء الحفاة»، يخدمون بكل أمانة وإخلاص جماهير الفلاحين الغفيرة الذين كانت ظروفهم المعيشية قاسية، وكانوا يتوغلون بين الفلاحين لنشر التوعية الصحية. وقد أصبح مفهوم الأطباء الحفاة جزءاً أساسياً من مفاهيم الثورة الثقافية الكبرى في الصين وقد قامت الحكومة الصينية بتغيير مصطلح «الأطباء الحفاة»، إلى مسمى النظام الطبي التعاوني الريفي ولكن الفكرة الأساسية ظلت كما هي حيث تعطي السياسة الصحية الأولوية للريف في تلقي الخدمات الطبية وإعلاء شأن الأطباء الشعبيين، كما قضت بإعادة صياغة منهاج كلية الطب للتركيز على الأمراض الشائعة في بلادهم بدلاً من الاعتماد على المنهاج الأوربي في التدريس. لقد الهمت تجربة الأطباء الحفاة خبراء الصحة في الولايات المتحدة وبريطانيا في سبعينيات القرن الماضي ودعوا إلى تبني النموذج الصيني في حل مشاكلهم الصحية.

ومن النماذج الملهمة التي يمكن تسميتها الأطباء الحفاة في السودان، هي تجربة تدريب «الدايات» في السودان عام 1919 في توليد الأمهات على يد ممرضة إنجليزية والتي مثلت عمق النظرة الإنسانية ومناصرة الإنسان لأخيه الإنسان. فقد كان معدل الوفيات بين الأمهات والأطفال الرضع آنذاك مرتفعاً إذ لم تكن «الدايات» التقليديات يمارسن قوعد النظافة والسلامة. ونتيجة لهذا البرنامج انخفضت نسبة الوفيات وأسهم إسهاماً مباشراً في رفع المستوى الصحي للأسرة ليس في السودان فقط وإنما في الدول المجاورة أيضاً، فقد كان برنامج تدريب «الدايات» في اليمن امتداداً طبيعياً للبرنامج الذي بدأ في السودان والذي كان له دور ملموس بالتطور الصحي وخفض نسبة الوفيات.

إن هذه التجارب الإنسانية الرائدة ومثيلاتها، تعتبر شواهد تاريخية على أن الإرادة الإنسانية الصادقة مع التأهيل المهني والتخطيط الذي يستند على أرض الواقع وحاجات المجتمع، تؤسس نقطة انطلاق للوقوف بوجه التحديات والعوائق التي تحول دون تقدم المجتمعات وتطورها. فالمرض ليس له حدود جغرافية فقد ينشئ في مكان ويستوطن في آخر، ويجد له ذيولاً في مكان ثالث. ولا يوجد مجتمع يمكن أن يعيش بمعزل عن العالم ومن هذا المبدأ يجب أن يهتم الطبيب بتجارب البشرية من أجل تخطيط وتنفيذ وتقييم البرامج الصحية في مجتمعه وإفادة الغير من تجاربه.

* أخصائية طب مجتمع