كتبت ـ نور القاسمي:
كشفت المواقف الفرنسية الأخيرة حيال المحتجين ضد العدوان الإسرائيلي على غزة في شوارع باريس، وجهاً آخر لـ«بلد الحريات» الأول في العالم، عندما قمعت ونكلت بالمتظاهرين، وتوعدت بملاحقتهم ومعاقبتهم.
وتناقض هذا الموقف مع ما ذهبت إليه باريس من المطالبة بالحريات وحماية حقوق الإنسان في شتى بقاع المعمورة، ودعوتها حكومة البحرين للسماح بـ«التظاهر السلمي»، والإفراج عن «معتقلي الرأي»، والانخراط في حوار وطني شامل.
وبرز الموقف الفرنسي من الأحداث الجارية في البحرين منذ فبراير 2014، عندما دان أكثر من مسؤول فرنسي كبير «الاستخدام المفرط للقوة» ضد المحتجين «السلميين»، ورفع سقف الحريات في البلاد، والالتزام بالمواثيق الدولية وتوصيات بسيوني ومجلس حقوق الإنسان العالمي.
ومنح القضاء الفرنسي ضوءاً أخضر للرئيس فرانسوا هولانـــد وحكومتــــه لمنــــع كـــل المظاهرات والمسيرات المنددة بالعدوان الإسرائيلي على غزة، مبررة المحكمة الإدارية قرارها بالقول إن «من حق الحكومة عدم منح تراخيص لمظاهرات ومنعها في حال وجود توتر في البلاد قد يلحق أضراراً بالممتلكات والأمن العام»، واعتقلت أكثر من 40 متظاهراً، ومع ذلك مازالت باريس تدعي المطالبة بالحرية لشعب البحرين.
وتراجعت باريس أمس عن قرارها وسمحت لتظاهرة، الأمر الذي يؤكد فضح تناقضها وإذدواجية معاييرها حيال التخريب والتظاهر وحرية التعبير.
موقف باريس من أزمة البحرين
بدأت فرنسا تدخلها في شؤون البحرين الداخلية بعد 6 أيام من بداية الأزمة، ففي 20 فبراير 2011 عندما وضع الناطق باسم الخارجية الفرنسية برنار فاليرو، البحرين بدائرة ما يجري في ليبيا آنذاك.
وبدأت التصريحات الفرنسية الرسمية عن الأوضاع في المملكة بعد شهر من أحداث 14 فبراير، ففي مطلع مارس من العام ذاته أعرب رئيس فريق الصداقة بين فرنسا ودول الخليج فيليب ماريني، والنائب الفرنسي جان بيزي المعني مباشرة بشؤون التعاون بين البحرين وفرنسا، في بيان مجلس الشيوخ الفرنسي، عن قلقهما حيال ما أسمياه «تطورات الوضع في المنامة».
وأعربا عن تمنياتهما أن يجري «حوار بناء بين سلطات البحرين والقوى السياسية، وتوطيد الحوار بين السلطات والقوى السياسية في البلاد»، وأكدا أنه «من الضروري أن تتمكن جميع الأطراف من التعبير بهدوء وحرية عن موقفها لضمان السلام والوحدة وإجراء الإصلاحات الديمقراطية اللازمة».
وخرج بعدها وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه في 20 مارس 2011، في ختام اجتماع مع نظرائه الأوروبيين في بروكسل ليقول «ينبغي أن ينتصر الحوار على القمع في البحرين!».
وحثت باريس في عدة خطابات وتصريحات لمسؤوليها طوال عام 2011، وفي مواضع مختلفة بضرورة السماح لـ«المعارضة» بالتعبير عن رأيها بشكل سلمي، كأن تنظم تظاهرات أو أن تتكلم بشأن الأوضاع السياسية في المملكة، داعين الحكومة إلى الإسراع في دعوة المعارضة إلى الحوار متجاهلة مطالبها الاستفزازية!
تطور التدخل الفرنسي
في عام 2012 تحول الموقف الفرنسي من موقف عابر وتصريحات رسميـــة، إلـــى تدخل مباشر في أنظمة الحكم والسلطة التشريعية في البلاد، وأصبحت تصريحاتها تثير الشعب البحريني، وتدفع المعارضة إلى الاستمرار في أعمال العنف والتخريب والشغب والتظاهرات.
وتعمدت فرنسا تلمس قضايا حساسة تهم المعارضة، وتقف في صفهم ضد النظام التشريعي في المملكة، وتطالب بإقالة المعتقلين السياسيين، ما دفع صفوف المعارضة للخروج بعدد من المظاهرات وأعمال الشغب خلال الفترة مدفوعة بما صدر عن الجهات الرسمية الفرنسية من تصريحات.
وفي أبريل من العام ذاته قال الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية والأوروبية بفرنسا برنار فاليرو «نتابع عن قرب ونحن قلقون جداً جراء حالة المعتقل عبدالهادي الخواجة المضرب عن الطعام منذ شهرين، وندعو السلطات البحرينية إلى استكشاف كل السبل التي تسمح بإيجاد حل إنساني بسرعة، نظراً إلى احتمال تدهور حالته الصحية سريعاً، وعلى نحو أوسع نكرر نداءنا إلى السلطات البحرينية لإعادة دراسة الأحكام المعلنة أمام محكمة السلامة الوطنية، وفقاً لإجراءات تهدئة أوصى بها تقرير بسيوني».
وبغضون مايو 2012 أمطر ممثل فرنسا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حكومة البحرين بوابل من الانتقادات اللاذعة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان.
ودعا البحرين لتنفيذ توصيات لجنة تقصي الحقائق، منتقداً ما أسمــاه «الاعتقـال التعسفي» واستمرار محاكمة المدافعين عن حقوق الإنسان والنقابيين، والإفراج عن نبيل رجب وعبدالهادي الخواجة، وجميع المعتقلين السياسيين و»إزالة القيود عن حرية التعبير».
وتطرق المندوب الفرنسي إلى وفاة نحو 30 شخصاً بسبب استخدام «القوة المفرطة» حسبما أكد تقرير تقصي الحقائق، وأوصى البحرين باحترام الحق في التجمع السلمي وعدم استخدام القوى المفرطة، ودعا لقبول دعوة المقرر الخاص بالتجمع لزيارة البحرين.
وطالب مندوبو 27 دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف يونيو من العام ذاته، ومن بينهم فرنسا، البحرين بـ«وقف انتهاكات حقوق الإنسان التي تشهدها البلاد»، وألقوا بياناً مشتركاً عن البحرين في الجلسة وكانت فرنسا أول الموقعين عليه.
المطالبة للتجمع السلمي
في أغسطس من العام 2013، دعت الحكومة الفرنسية البحرين إلى السماح بالتظاهرات السلمية، مطالبة جميع الأطراف السياسية بمواصلة الحوار لتلبية تطلعات البحرينيين.
ودانت الحكومة الفرنسية تصاعد وتيرة العنف في البحرين خلال الأسابيع الماضية واستهداف شخصيات سياسية وأمنية.
وجددت وزارة الخارجية الفرنسية رفضها أعمال العنف والإرهاب بغض النظر عن دوافعه، مطالبة جميع الأطراف السياسية البحرينية إلى مواصلة الحوار الوطني، بما من شأنه تخفيف حدة التوتر والوصول إلى حل شامل يلبي تطلعات البحرينيين.
فيما دعت وزارة الخارجية في تغريدات لها على «تويتر» في ديسمبر 2013، إلى ضرورة التنفيذ الكامل لتوصيات اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، مؤكدة دعوتها إلى استمرار الحوار الوطني في البحرين.
وفي رده على الأسئلة المطروحة بشأن البحرين، خلال مؤتمر صحافي، قال الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية فيليب لاليو «إننا ندين العنف بكل أشكاله، ونتابع باهتمام كبير الوضع في البحرين».
وقال لاليو «تساند فرنسا الحوار الذي أطلقته السلطات البحرينية، ويجب أن يستمر لإيجاد حل سياسي دائم يتوافق مع تطلعات مجمل البحرينيين».
لقاء أطراف المعارضة
وخالفت فرنسا أنظمة وقوانين البحرين بشأن الجمعيات السياسية والناص على منع الجمعيات السياسية من التواصل مع الدول الأوروبية أو الأجنبية ودعوتها للتدخل في الشؤون السياسية في المملكة، بينما فتحت فرنسا الأبواب لهم واستقبلت وفداً منهم وناقشت الأوضاع السياسية في المملكة مدة من الزمن، دون وجه حق.
وفي يناير 2014 اختتم وفد المعارضة جولته في العواصم الأوروبية باجتماعات مكثفة في العاصمة الفرنسية باريس، حيث عقدت اجتماعاً مع نائب مدير دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الفرنسية ديدير شابيرت ومساعده المسؤول عن العلاقات مع قطر وعمان والبحرين مارك ديديو، واستعرضوا التطورات السياسية الأخيرة في البحرين.
وأكد هؤلاء المسؤولون ضرورة الشروع في حوار جدي ثنائي تتم تهيئة الأجواء اللازمة له من خلال تحقيق الانفراج الأمني والسياسي والإفراج الفوري عن معتقلي الرأي، وتنفيذ توصيات اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق وتوصيات مجلس حقوق الإنسان العالمي، بما فيها محاسبة المتسببين في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان وممارسي التعذيب النفسي والجسدي بحق المعتقلين السياسيين على حد وصفهم.
وعقد الوفد اجتماعاً مع مسؤول الدائرة السياسية في الحزب الاشتراكي الفرنسي الحاكم، تطرق فيه إلى ضرورة الشروع في الحل السياسي ومغادرة الحل الأمني.
ولفت إلى وجود قرابة 3 آلاف معتقل صدرت بحق العديد منهم أحكاماً قاسية، بما فيهم الأطفال والنساء اللاتي بينهن واحدة على الأقل حامل.
وختم الوفد زيارته إلى فرنسا بعقد اجتماعات مع شخصيات سياسية وحقوقية فرنسية، أكد خلالها وفد المعارضة أن الحوار الجدي هو خيار استراتيجي لدى قوى المعارضة وأنه الكفيل بإخراج البلاد من أزماتها.
موقف فرنسا تجاه غزة مخزٍ
من جهته أكد المحلل والباحث الاستراتيجي د.محمد نعمان جلال، أن الموقف الفرنسي تجاه القضية الفلسطينية يثير الدهشة والاستغراب، وقال «كان من المؤمل أن تأخذ الحكومة الفرنسية مبادرة أخرى غير ما اتخذته منذ فترة».
وأضاف أن الموقف الفرنسي اليوم ضد القضية الفلسطينية موقف يثير التساؤل، خصوصاً لأن فرنسا تمثل «بلد الحريات» والدولة الأولى التي أطلقت مفهوم الثورة عند إشعالها لشرارة الثورة الفرنسية ومدافعتها عن مبادئ حقوق الإنسان، التي قمعها العدوان الصهيوني في أرض فلسطين المحتلة، وتراجعت أبسط حقوق الإنسان فيها عند القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
وأشار إلى أن منع الشعب الفلسطيني من التظاهر السلمي في أرض «بلد الحريات» كما تسمى، ومطاردتهم والخوض معهم في اشتباكات أمنية واعتقال متظاهريهم موقف لا يصح أن يصدر عن فرنسا، بعد أن رفعت الحريات واستضافت محاكم حقوق الإنسان،.
وأضاف أن الموقف الفرنسي كان من المفترض أن يكون أكثر تقدماً تجاه رفض العدوان الصهيوني على فلسطين، خصوصاً أنها منذ حرب 1967 بينت موقفها تجاه الاعتداءات على الدول، وقالت إن الدولة التي تعتدي أولاً نأخذ موقفاً ضدها، وهددت الدول المعتدية وضغطت عليها للعدول عن الاعتداء.
وذكر أن التغير الحاصل في الموقف الفرنسي إزاء القضية الفرنسية، سببه اختلاف القوى السياسية في العالم كله، وتغير الحكومة الفرنسية، مؤكداً أن فرنسا لابد أن تسمح بالتظاهر السلمي وتكون أول الداعمين له، خصوصاً أنها أيدت المبادرة المصرية في وقف إطلاق النار ومنع إراقة الدم الفلسطيني لكن موقفهم من التظاهر السلمي اليوم مخزٍ.
فيما ربط المحلل السياسي فتحي العلوي منع الحكومة الفرنسية الشعب الفلسطيني من التظاهر أو التجمع أو التعبير عن الرأي على ما يجري في غزة من عداء صهيوني بالموقف الفرنسي في منعه للحجاب، لاضطهاد الإسلام والمسلمين، خصوصاً أن القضية الفلسطينية وإن كانت قضية عالمية، إلا أنها «إسلامية» بالدرجة الأولى.
وقال إن الموقف الرسمي للحكومة الفرنسية، لا يمثل الشعب الفرنسي ككل، مبيناً أن الكثير من الشعب الفرنسي يدعم القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية المحتلة، إلا أن الحكومة الفرنسية باعت جميع معاهدات حفظ حقوق الإنسان بعد أن طالبت بها، فكيف لها أن تلزم الدول الأخرى بها؟
وأوضح أن الموقف الفرنسي الرسمي يدل على أن الحكومة الفرنسية تبحث عن مصالحها في المنطقة ضد حقوق الإنسان، خصوصاً في فلسطين، فبعد الاستعمار الفرنسي على لبنان وسوريا وخروجهم بفعل الانتفاضة الشعبية في الدولتين، اتخذت فرنسا ردة فعل طبيعية لإثبات وجودها في المنطقة، عن طريق دعمها لإسرائيل.
ولفت إلى أن الديمقراطية التي تناشد فيها الحكومات الغربية ليس بالضرورة أن تكون كلها في خدمة الشعوب، لافتاً إلى أن تذبذب الموقف الفرنسي جاء من كون الدولة «جمهورية» ويعين حاكمها بالانتخاب من قبل الشعب، فهذا الحاكم يأتي بأطروحات جديدة وكادر جديد.
وأوضح أن جميع الدول الجمهورية يتغير موقفها بتغير حكامها، وحتى في إسرائيل فكل رئيس جديد له آراء مختلفة وطريقة معاملة جديدة وسياسة جديدة.
وقال إن الموقف الفرنسي تجاه البحرين سلبي، خصوصاً أن البحرين مملكة يحكمها دستور وافق عليه 98.4% من الشعب البحريني، لذا لا تحتاج المملكة لأوامر أو اشتراطات من أي دولة خارجية، خصوصاً لأن الدستور البحريني يكفل الحفاظ على حقوق الإنسان والتظاهر السلمي والتعبير عن الرأي والحرية والديمقراطية.
وأضاف أن البحرين ترحب بمن يقدم الآراء وليس بمن يملي الشروط، وبما يتوافق معها كدولة دستورية مستقلة، ويضع مصلحة المواطنين بمقدمة الأولويات.