أولاً، هذا المقال ليس في مديح كارل ماركس. فعلى الذين تأهبوا، كعادتهم، لتكرار تعليقاتهم التقليدية ذاتها، عن الإيديولوجيا والدوغمائية والأفكار التي عفا عليها الزمن أن يعودوا لاسترخائهم ويحلوا تأهبهم. ثانياً، ليس من بديل اقتصادي وفلسفي عن الماركسية غير الرأسمالية التي لا يتأهب فريق الهجوم على الإيديولوجيا والدوغمائية لنقدها وتحليلها، وإيجاد بديل موضوعي وواقعي عنها. فنحن اليوم نعيش أشرس مراحل الرأسمالية التي تقاوم الأورام المستشرية في جسدها، والتي نبتت من تناقضات «حتمية» تنبأ ماركس «شخصياً» بوقوعها وكأن الله كشف عنه حجب الغيب قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً.

الذين فوجئوا بالاحتفاء غير العادي في الغرب، هذا العام، بمناسبة مرور مائتي عام على ميلاد كارل ماركس. لا يعرفون أن ماركس غادر موقعه في المقبرة منذ عام 2008 مع الأزمة الاقتصادية العالمية ليجلس على كرسيه الوثير ويذكر الناس بمواقع تنبؤاته الاقتصادية في البيان الشيوعي وفي كتاب رأس المال وغيره من التراث الفلسفي الذي يعتبره الغرب ثروة فكرية وإنسانية قابلة لإعادة القراءة والترجمة والتفسير. منذ عام 2008 والغرب يعيد قراءة تراث كارل ماركس قراءةً جديدة تستقيم ومعطيات العصر الراهن. كان ماركس قد تحدث عن كل التناقضات الحالية التي تعيشها الرأسمالية والتي ستؤدي إلى الانهيار الاقتصادي الأعظم. فكرة فائض الإنتاج التي تتوحش الرأسمالية في بلوغها وارتطامها بتراجع الاستهلاك نتيجة سياسات رفع الضرائب وزيادة الديون. ما أسماه ماركس بـ«الجيش الاحتياطي من البطالة» الذي سينتج عن زيادة مكننة العمل والذي يقابله تقليل أعداد العاملين وزيادة ساعات العمل وتثبيت الأجور. تراكم الثروات في يد أفراد محدودين واتساع رقعة الفقر وتلاشي الطبقة الوسطى. كانت هذه «الأفكار» تجلب السخرية حين كانت الرأسمالية في شبابها اليانع اليافع تتدثر بالإنتاج الغزير والتقدم العلمي وارتفاع مستوى دخل الفرد في الدول الرأسمالية. وحين كانت «التجربة الماركسية الأولى» في أوروبا الشرقية تترنح بفعل الفساد والانتهازية ومحاربة الرأسمالية والتيارات المحافظة لها.

انبعثت «أفكار» ماركس «وفلسفته» في الغرب بسبب الحاكمية المطلقة للرأسمالية على العالم. والرأسمالية ليست نظام اللجوء المريح ومدفوع الأجر الذي تمتاز به فرنسا والسويد. وليست نظام الهجرة المبهر الذي يُمكن أبناء الجيل الثاني مباشرة من الوصول إلى سدة الرئاسة كما في ألمانيا وأمريكا. الرأسمالية هي العوامل التي تقف خلف ما يبدو أنه دولة الرفاه في الغرب. حقيقة الرأسمالية تكمن في الاستعمار الجديد الذي مازالت تمارسه دول الغرب في صورة خفية تقوم على وضع اليد على ثروات العالم الثالث والسيطرة على الهيكلية السياسية ومواقع اتخاذ القرار. مناجم الذهب والحديد والألماس والنفط وغابات البلوط والأخشاب والكاكاو والقهوة والمنافذ البحرية الهامة كلها تقع تحت سيطرة مباشرة وفي هيئة غير مباشرة للدول الرأسمالية. استحالة التحول الديمقراطي في العالم الثالث وعمليات الانقلابات السياسية والعسكرية والاغتيالات تقف خلفها الرأسمالية، التي ترفض استقلال دول الثروات بقرارها ومصيرها وثرواتها.

وبناء على ما سبق فقد طورت القراءات الجديدة لـ «أفكار» ماركس مفهومه للطبقية من طبقية اجتماعية إلى طبقية عالمية حيث تعيش الآن شعوب بأكملها تحت عبودية شعوب الدول الرأسمالية. إذ لا يحق لشعوب العالم الثالث معرفة حجم ثرواتها الحقيقية التي تستأثر بها الشركات الغربية والشركات العابرة للقارات، ولا يحق لها اختيار نظامها السياسي أو الالتفاف حول زعيم وطني. ولا يحق لدول العالم الثالث أن تلج عصر التصنيع المتوسط والثقيل فتنتج سياراتها ومحركاتها ومكيفاتها وحواسيبها الأصلية وليست المركبة!! كما إن مفهوم العبودية الجديد لا يشمل مقتضيات العناية والرعاية، فالدول الرأسمالية تعمد إلى إتلاف ملايين الأطنان من الغذاء للمحافظة على سعره في الأسواق العالمية، في الوقت الذي تعيش فيه كثير من دول الثروات المنهوبة فقراً ومجاعة وعجزاً عن توفير الطعام.

الرأسمالية ليست العدالة وحقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب في دوله ويزايد بها على دولنا حين يخطط لأجندة تخصه. الرأسمالية هي الحروب التي لا يسمح لها بأن تنتهي كي تستمر مصانع الأسلحة في العمل بمختلف الصور من تصنيع وتطوير وصيانة وتوفير قطع غيار وفنيين ودائرة لا تنتهي من الوظائف التي تقتات على دماء ملايين البشر. الرأسمالية هي حرب الفيروسات الإلكترونية التي تفسد الأجهزة الإلكترونية وتسرق بياناتها كي تستمر دورة سوقها. هي الأوبئة الغريبة العجيبة التي تظهر فجأة كي تبيع شركات الأدوية عقاراتها ولقاحاتها وتطعيماتها.

وكي لا يعود أحدهم إلى تأهبه، أُذكر، أن هذا المقال ليس في مديح ماركس والماركسية. بل هو مناقشة «للأفكار»، وتتبع لسلوك الغرب كيف يناقش تراثه وكيف يقرأ نظمه المعرفية. الغرب ليس مثلنا يأتي متأخراً ثم يجلس على الهامش ليختصم في الشعارات. الغرب صانع الفلسفات القديمة والحديثة يعتبر ماركس ثالث اثنين غيروا مجرى تفكير البشرية في العلوم الإنسانية «تشارلز دارون، كارل ماركس، سيجموند فرويد». والغرب يميز بين «التجربة» و»الفلسفة». لذلك فإن ماركس ليس شرق أوروبا وليس جدار برلين. إن القضية اليوم، بالنسبة لنا في الوطن العربي، ليست حزبية أو إيديولوجية، القضية أصبحت قضية مبادئ وقيم. وخيار فكري ومنهجي. فلك الخيار أن تنحاز إلى الشعوب الفقيرة التي تنهب ثرواتها وإلى الطبقة المتوسطة المسحوقة التي تزداد تآكلاً عاماً بعد عام. أو تنحاز إلى خيارات الرأسمالية أو الليبرالية التي لا يقف أمامها شيء يحد من براغماتيها ورغبتها في المنفعة لفئات محدودة.