«فاقد الشيء لا يعطيه» مقولة راسخة في النفوس وفكرة اقتنع بها الكثيرون منا ولكن دعونا نتأمل هذه المقولة هل هي حقيقة مطلقة أم أنها لا تصدُق في جميع الأحوال، فقد تصدُق المقولة في حالة العطاء المادي فمن لا يملك المال يعجز عن العطاء للآخرين، وقد تصدق المقولة عندما ينصح الإنسان الآخرين أو يربي أبناءه على الالتزام بالقيم والأخلاق والسلوك السوي، فمن لا يلتزم بخلق معين أو يمارس سلوكاً سلبياً من الصعب أن ينصح أبناءه والآخرين بالالتزام بالخلق والسلوك القويم فالشخص الذي يتصف بالكذب أو لا يحترم المواعيد أو يدخن فلن يتقبل أبناؤه أو الآخرون منه النصح لتجنب هذه السلوكيات ففاقد الشيء لا يعطيه، تلك مسلمات في سلوك الناس والمجتمعات لا خلاف عليها.

ولكن لكل قاعدة شواذ، فأحياناً فاقد الشيء يشعر بقيمة ما فقده فينجح في منحه للآخرين فمن فقد حنان أحد الأبوين بسبب وفاة أحدهما أو كليهما تجده يغدق العطف والحنان على أبنائه والآخرين فقد جرب وشعر بآلام الحرمان ومرارته فيكون له دافعاً لتعويض الشعور بالحرمان بعطائه للآخرين عطاء لا متناهياً دون شروط أو قيود. فمن منا لم يجرب الشعور بالحرمان فتلك سنة الحياة لا ننال منها كل النعم فلا بد أن تذيقنا مرارة الحرمان، والعاقل هو من يحسن التحكم في مشاعره ويتقن قيادتها ليوصل نفسه إلى رتبه يطمح لها كل إنسان إنها رتبة حسن الخلق والتحلي بمكارم الأخلاق، فالبعض عندما يحرم من شيء تتحول مشاعره إلى مشاعر سلبية فيحسد من لديه هذه النعمة، ويتمنى زوالها عنه، ولربما تجده يكيد له ويؤذيه ليطفئ ناراً تجيش في صدره، والبعض تتحول مشاعر الحرمان لديه إلى مشاعر غضب وعدوانية يصبه على كل شيء حوله فينقم من جميع الناس وينقم من الدنيا وما فيها، وآخرين تجدهم يهزمهم الحرمان فيميلون للعزلة والانطواء على أنفسهم لشعورهم بالنقص وكأن لسان حالهم يقول إما أن نرزق كل نعم الدنيا وإلا نعتزلها. وأما البعض فيحول آلام مشاعر الحرمان إلى حب للعطاء للمحرومين مثله وإلى دافع للإنجاز والإبداع لخدمهم بأفضل ما يمكن، فيحيل نفسه بلسما يداوي آلامهم، فيشعر بالرضا والسعادة عندما يسعدهم ويداوي جراحهم. ما أصعب إدارة النفس وما أصعب قيادة المشاعر فقيادة النفس والمشاعر بطريقة إيجابية مسؤولية كبيرة ألقاها الله على عاتق أبناء آدم حيث قال في كتابه العزيز: «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها».

لعمري إن صرح النجاح لا يبنى إلا بقيادة النفس نحو المشاعر الإيجابية، فكثيراً ممن عانوا من الحرمان صنعوا من حرمانهم نجاحاً عندما حاولوا تعويض المحرومين مثلهم، واعتبروا الحرمان نعمة من الله عليهم يستفيدون من الخبرات التي مروا بها وتدفعهم آلام الحرمان للإبداع والتميز، ولنا مثل في تهيئة الله تعالى لرسوله الكريم للنبوة فقد ذاق الرسول الكريم آلام اليتم والحرمان من حنان الأبوين في طفولته، فتحلى بصفة الرحمة وكان عطوفاً حنوناً على الأطفال بل وجميع الضعفاء، فقد قال النيسابوري: قال أهل التحقيق: الحكمة في يتم النبي «صلى الله عليه وسلم»، أن يعرف قدر الأيتام فيقوم بأمرهم، وأن يكرم اليتامى المشاركين له في الاسم، ولذا كان يقول «صلى الله عليه وسلم»: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى، رواه البخاري.

وها هو عطاء بن رباح إمام أهل مكة وعالمها وأهم فقهاء التابعين حرم من نعمة الحركة بسبب إصابته بالشلل فاستثمر هذا الحرمان واستفاد من جلوسه بأن جلس لطلب العلم حتى أصبح عالماً وفقيهاً، وبدلاً من أن يعيش بعيداً عن الناس بسبب إعاقته عن الحركة إلا أن الناس كانوا يأتون إلى مكانه من كل حدب وصوب لينهلوا من علمه.

وها هو الظاهر بيبرس كان عبداً يباع في أسواق النخاسة ببغداد فذاق مرارة الحرمان من الحرية، فدفعه هذا الحرمان للاجتهاد حتى أصبح من علية القوم فقد أصبح سلطاناً بين قومه، وقاد معارك يدافع فيها عن أهله ضد الصليبيين والمغول واستبسل لأنه يعرف معنى الهزيمة فهو يخشى على أهل قومه من مذلة الأسر والبيع والاتجار بهم.

ومثال آخر، تجربة مؤسس فكرة رياض الأطفال نشأ محروماً من حنان أمه لوفاتها وعانى من إهمال والده له فعوض هذا الحرمان بأن يحمي الأطفال المحرومين من الشعور بالألم الذي عانى منه فابتدع فكرة رياض الأطفال فهو يعتبر الطفل زهرة جميلة ونبته مفيدة يجب أن تحمى في حاضنات إذا ما فقدوا الحاضنة الطبيعية وهي الأسرة.

والأمثلة في هذا المجال كثيرة لنماذج حولوا الشعور بالحرمان إلى حب للعطاء فنالوا الرفعة واحترام من حولهم ورضا ربهم، فاستعرض عزيزي القارئ في ذهنك مثل هذه النماذج وهي كثيرة لتستفيد من تجربتهم وتتعلم منها فتعين نفسك على قيادتها نحو الأصلح، فقيادة النفس تحتاج لصبر وإدارة ولا تنس أن الشيطان يتربص بالإنسان ليعينه على الميل نحو الجوانب السلبية، فقد هدد أبناء آدم منذ بداية الخليقة بأن يدفعهم نحو السلبيات حين قال: «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ».

فلنكن أقوياء أمام الشعور بالحرمان ولنقاوم الشيطان ولنقاوم النفس الأمارة بالسوء فلا يتسبب إحساسنا بالحرمان في تهييج المشاعر السلبية في صدورنا من غضب وحقد وحسد وضغينة ولنحوله لمشاعر إيجابية من حب وعطاء للآخر وتعاطف مع المحرومين.. ودامت قلوبكم عامرة بالخير.