لسنوات عديدة صرت اعتبرها إنسانة مستفزة، وبدت لي أنها تضل طريقها من الفن نحو التحول إلى ظاهرة إعلامية مثيرة للجدل فقط لا غير. هكذا كانت الفنانة أحلام تتعمد أن تصدم متابعيها بالملابس والمجوهرات الفاخرة، وبالتنديد والاستهزاء والوعيد لمن يخالفها أو يختلف معها في الوسط الفني أو الإعلامي. حتى ظهرت هذا العام في أحد البرامج الفنية وقد اكتسبت خبرة اجتماعية وهدوءاً نفسياً، واستثمرت البرنامج لتصلح ما أفسدته تصريحاتها السابقة، ثم انهمرت دموعها بعد أن نجحت في التصالح، الذي سعت له عبر البرنامج، مع الفنانة الكويتية نوال. هذه الحلقة ليست إلا نموذجاً من حلقات كثيرة في برامج عديدة يتجلى فيها تطور قدرات العديد من الفنانين والإعلاميين والمشاهير عامة عن التعبير عن ذواتهم بأسلوب إنساني مقبول لا يجمل الذات ويرفع بها نحو المثالية ولا يكسرها أو يحط من شأنها.

الحديث أو الكتابة عن الذات من الفنون السردية التي لم يولِها العرب اهتماماً وتعمقاً كافيين. يستدل النقاد على ذلك من نمط الإنتاج الكتابي للسير الذاتية العربية التي يتسم أغلبها، إلا ما ندر، بالانتقائية المفرطة لما يزين الذات في ذهن المتلقي، والحذر من الخوض في الخصوصيات أو ما من شأنه استفزاز المجتمع، على عكس سمات السير الذاتية عند الكثير من الشعوب الأخرى. أما على صعيد اللقاءات الصحافية أو التلفزيونية فإننا نلاحظ كثيراً أن انزلاق بعض المشاهير في الحديث عن الذات إما يتجه نحو الإيجابية أو ينجرف نحو التشنج والانفعال، وهو ما يشجع بعض الإعلاميين لإحراز ضجة و"خبطة إعلامية" على حساب انفعال الضيف سواء كان من أهل الفن أو السياسة أو الرياضة أو غيرهم من المشاهير.

تعتبر بعض الدراسات السيسيولوجية أن أزمة العربي في التعبير عن ذاته مردها ركيزتين متجذرتين في الثقافة العربية تحدان من انطلاق الذات الفردية وتعبيرها عن نفسها بحرية. الركيزة الأولى تتمثل في التحريض ضد الذاتية والجهر بها وإعلانها متمثلة في المقولة السائرة "أنا.. وأعوذ بالله من كلمة أنا"، التي يتعلمها العربي كما يتعلم البسملة قبل كل فعل. وهي مقولة يعبر فيها المتحدث عن قمعه، طواعية، لذاته وتحجيمها فيما ستظهر فيه، لاحقاً، من قول أو تعبر عنه من فعل. والركيزة الثانية هي البنية "القَبَلِيّة"، التي نشأت عليها مجتمعاتنا وسطوة "الجماعة" على مختلف نظمنا المعرفية والاجتماعية، حيث يبقى الفرد مقيداً بشروط الجماعة وممارساتها وقوانينها، وملزماً بالذوبان في كيانها. بالتالي يتولد لدى الفرد حس رقابي عالٍ يضبط سلوكه العلني ومنها الكتابة أو الحديث عن الذات، حيث يتحرى الكاتب أو المتحدث أن يكون مستجيباً لشروط الجماعة، وأحد شروطها تهميش الذات الفردية.

لذلك، ومن خلال، القمع الطوعي للذات، والانصياع لرقابة الجماعة، يكون الحديث أو الكتابة عن الذات أميل للخجل والكتمان وانتقاء ما يتسق مع الجماعة، أو قد تفقد الذات "المتمردة" اتزانها فتنفلت وتدخل في تشنج وسجال مع الآخر، متمثلاً في تبني سلوكيات جريئة لا معنى لها ولا غاية إلا إعلان التمرد، أو يخوض الفرد في خصومات وملاسنات غايتها حماية الذات التي بدأت تتلقى الضربات!

الإحساس بالذاتية واستقلالها وحريتها، واحدة من مكاسب الحداثة المهمة التي لم تصل إمداداتها إلى الشواطئ العربية كما وصلت السلع الاستهلاكية. وقد يحتاج انطلاق ذواتنا وتمكنها من الحضور بمرونة وسلمية وسط هذه الهيمنة المجتمعية إلى وقت وتدريب ومحاولات فاشلة مرات، وناجحة لمرة. لذلك، فإني، أشعر بالرضا حين أرى الكثير من عامة الناس بمختلف تكويناتهم وثقافاتها والاجتماعية يتفننون في وضع صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وحين يعبرون بصور السيلفي عن تحركاتهم وأنشطتهم واهتماماتهم، حتى لو كان ارتيادهم لبعض المطاعم أو سفرهم للسياحة. قد يعبر البعض عن ذلك بشيء من الطيش والتكلف والنرجسية، ولكنها رحلة تعليمية، لابد منها، في مشوار التعرف على الذات وعقد الصلح المناسب بينها وبين محيطها الذي قبعت طويلاً تتحفظ في إعلان التعامل معه.

تقدير الذات والقدرة على التعبير عن حضورها وتحققها وتميزها يضبط اتزان الفرد، ويجعله أكثر انسجاماً مع مجتمعه حتى في أقصى درجات الاختلاف مع مؤسسات المجتمع التقليدية وقوانينها وشروطها. واعتراف "الجماعة" بخصوصية الذوات المنضوية تحت جناحيها، وحق كل "ذات" في التعبير عن تفردها، يعكس درجة تحضر المجتمع وقدرته على استيعاب التنوع والاختلاف الذي يقوي الجماعة ولا يشظيها.