كثيرون منا شاهدوا الفيديو المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويظهر فيه مجموعة من الفتيان ينهالون بالضرب والركل على فتى آخر في مثل عمرهم تقريباً، بعد خروجهم من امتحانات نهاية العام الدراسي على ما بدا من معطيات الفيديو، وقد تركزت معظم تلك الضربات على منطقة الرأس، بينما لم يتمكن الفتى المعتدى عليه من مجاراتهم في اعتدائهم بل قد اكتفى المسكين بالبكاء ومحاولة تغطية رأسه لتوقي الضربات المنهالة عليه دونما فائدة.

ولعل المحزن في هذا الفيديو أن الفتيان المعتدين كانوا يتباهون بقوتهم ويتضاحكون بينما يكيلون الضربات تلو الضربات والركلات تلو الركلات للفتى دون أدنى رحمة على رأسه وأذنيه وكامل جسمه، مما يشير إلى أن كلاً من المعتدين والمعتدى عليه هم ضحايا على حد سواء.

أما المعتدون فهم ضحايا التربية غير السليمة والبيئة الاجتماعية غير السوية التي أخرجت نتاجاً عنيفاً ومتنمراً كهذا، فأي تربية قد تلقوا أولئك الصغار ومن أي بيئة قد خرجوا وماذا ننتظر منهم في المستقبل ما لم يتلقوا رعاية وعلاج نفسيين دقيقيين حالهما في ذلك حال الطفل المعتدى عليه.

وأما المعتدى عليه فهو ضحية التنمر -بطبيعة الحال- الذي بات قضية تربوية وظاهرة اجتماعية تقض مضجع التربويين والمختصين في كافة أنحاء العالم، خاصة مع ضبابية الإحصائيات المتعلقة بالتنمر بسبب تستر الضحايا غالباً على سلوكيات التنمر التي يتعرضون لها إما لتعرضهم للتهديد من قبل المتنمرين أو بسبب الخجل، أو لاعتبارات اجتماعية أخرى.

لقد أعادت هذه الحادثة إلى الأذهان عدة حوادث مماثلة وقعت قبل فترة وضحاياها من الأطفال أيضاً، ومنها الطفل الذي حاول إلقاء نفسه من باص المدرسة بعد استهزاء أقرانه به، وقبله الطفل الذي تعرض للضرب في حافلة المدرسة أيضاً.

إن تكرار تلك الحوادث يلفت الانتباه إلى وجود ثمة ظاهرة في مدارسنا ينبغي أن يقف عندها المختصون لبحثها ودراستها ومحاولة السيطرة عليها ووضع الحلول العاجلة لها حتى لا ينفلت زمام الأمور، خاصة إذا ما علمنا مدى خطورة ظاهرة التنمر خاصة مع ما تشير إليه كثير من الدراسات العلمية من أن هناك علاقة قوية بين التنمر والانتحار، حيث تؤكد تلك الأبحاث أن الطلبة ممن يمارسون التنمر وكذلك ضحاياهم قد حصلوا على درجات عليا في مقياس الأفكار الانتحارية.

كما قد تتسبب مثل هذه الحالات في ترك أثر بالغ في نفسية الطفل تصل حد كراهيته للتعليم ورفضه الذهاب إلى المدرسة أو الروضة، وحتى الخروج من المنزل.

والتنمر -بصفة عامة- هو شكل من أشكال العنف والإساءة والإيذاء يكون موجهاً من شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص بحيث يكون الشخص المهاجم أقوى من الشخص الآخر، وغالباً ما يتبع الأشخاص المتنمرون سياسة التخويف والترهيب والتهديد.

وإذا كانت الصورة الغالبة والمعروفة للتنمر تتمثل في التنمر الجسدي -أي الضرب والتعنيف- إلا أنه قد يكون لفظياً أيضاً من خلال قول أو كتابة كلماتٍ جارحة كنداء الشّخص بألقابٍ غير محبّبة أو توبيخه أو تهديده، وكذلك من الممكن أن يكون التنمر إلكترونياً، أو اجتماعياً عند إلحاق الأذى بسمعة شخصٍ ما وعلاقاته الاجتماعيّة كأن يتم إحراج الطفل أمام الآخرين والطلب من الأطفال عدم اللّعب معه.

وحتى تكون مدارسنا خالية من التنمر وتضمن فيها بيئة آمنة للأطفال، ينبغي على وزارة التربية والتعليم أن تتبنى استراتيجية متكاملة لمعالجة هذه المسألة من خلال التشخيص الدقيق لها والوقوف على حجمها في مدارسنا ثم وضع الخطط العلاجية اللازمة لذلك.

كما يجب توعية المعلمين وأولياء الأمور والطلبة بماهية سلوك التنمر وخطورته، وغرس قيم الثقة بالنفس وتأكيد واحترام الذات والاحترام المتبادل في نفوس الطلبة، جنباً إلى جنب مع تشديد المراقبة واليقظة التربوية للرصد المبكر لحالات التنمر ووضع برامج علاجية للمتنمرين بالشراكة مع المختصين في علم النفس، ووضع ميثاق في الفصل الدراسي يوضح حقوق جميع الطلبة وواجباتهم تجاه بعضهم البعض على شكل التزام يشارك الجميع في صياغته والتوقيع عليه بما يضمن تنفيذه.

ومن المفيد في هذا الإطار أيضاً إشراك المجتمع المدني في محاربة هذه الظاهرة، ومثالها مبادرة «نسيم» التي تبنت تسليط الضوء على ظاهرة التنمر تحت شعار «حين تؤذي» ومعالجتها عن طريق الفن.

ولعل الأهم من ذلك كله هو تشجيع الضحايا على التحدث عما يتعرضون له من سلوكيات التنمر، والتواصل مع المختصين في حالة تعرضهم لشيء من هذا القبيل فوراً.

* سانحة:

«لا تخف أبداً أن ترفع صوتك من أجل الصدق والحقيقة ومن أجل التعاطف ضد الظلم والكذب والطمع. لو فعل كل الناس ذلك.. سيتغير العالم»، «ويليام فوكنر».