تقلب الأغاني المدرجة في جهاز التسجيل عندي في السيارة، فتتأفف وتتذمر: ما هذا يا انتصار؟!! أغانٍ قديمة!!. ماذا حصل لك؟! لماذا تعودين للوراء؟!! وتشبك هاتفها بالمسجل وتدير الجهاز على أغاني عراقية جديدة سريعة وصاخبة جداً لا أعرف مطربيها ولا هوية الفن الذي يصدحون به. في الحقيقة لم تكن تلك الأغاني أغاني قديمة لأم كلثوم وعبدالوهاب، كانت أغاني لحقبة التسعينات وبداية الألفية الجديدة. ولكنني أنا أيضاً كنت هكذا أنظر إلى والدي وإلى الكبار الذين كانت ذائقتهم تقليدية وقديمة، وكان يعتريهم، في تصوري حينها، عجز ما يجعلهم غير قادرين على التطور وسماع الأغاني الجديدة الأكثر تطوراً ومتعة.

على صفحتي في «فيسبوك» عثرت على بعضهم. مجموعة من الأصدقاء الذين يتحلقون حول أي أغنية أو شارة مسلسل كارتون أو مقطع من فيلم لحقبة تمثل مراهقتنا وسنين الشباب الأولى. بعضهم كان يعلق بعاطفة جياشة عن زمن جميل لا مثيل لإبداعاته وقيمه. وبعض آخر يكمل التنقيب وينشر على صفحته مواد غنائية أو فيلمية أو صورا تذكرَها وعثر عليها في برنامج «اليوتيوب». الأجيال التي تشكل وعيها الأول في الفترة من السبعينات وحتى نهاية العشرية الأولى من هذا القرن دمجت نفسها تحت مظلة «جيل الطيبين». واجتهد أفرادها، الذين يعانون من فرط الحنين لتلك السنوات الخوالي، في توثيق تلك السنوات عبر البرامج المتعددة لشبكات التواصل الاجتماعي. فحين تدخل على وسم «جيل الطيبين» في «تويتر» مثلاً، ستنبهر بكم التفاصيل القديمة لأساليب الحياة والأدوات المدرسية والأزياء والألعاب والأطعمة والأغاني والبرامج التلفزيونية، بل وحتى المراسلات والبطاقات القديمة، التي وثقها الشغوفون بزمانهم الذي ولى.

ذات نقاش على صفحتي في «فايسبوك» حول تطور علاقة العرب بالقهوة ابتداء من الجاهلية وحتى صارت مشروباً عالمياً، أراد أحد الأصدقاء من أساتذة الأدب العربي في إحدى الجامعات العربية الإسهاب في شرح ذكر القهوة في الشعر الجاهلي فأكمله موقع الدردشة الخاصة، وقد فاجأني بكم الأبيات التي ذُكرت فيها القهوة والدلالات التي حملتها. وختم الأستاذ الجامعي معلوماته الوافرة بأنه يحب العصر الجاهلي كثيراً وأفنى حياته في دراسته، ولشدة تعلقه بالجاهلية تمنى لو أنه عاش فيها وبلغ الإسلام في آخر أيامه كي ينطق بالشهادتين ويموت. في البداية انفجرت ضاحكة أمام هذه الدراما في بناء الأمنيات. لكنني فيما بعد استشعرت أن ثمة زماناً ما، ربما لم نعشه، ولكننا نقع في أسره ونشعر أنه يمثلنا، ليكون زماننا الحالي هو أحد صور اغتراب أرواحنا. استحضرت في صدد أمنية الحياة في الجاهلية روزنامه، صناعة مصرية، تحمل صور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، أهداني إياها أحد القيادات الناصرية وذيلها بجملة كتبها بخط اليد «هذا زمان وددت ألا أعيش غيره». هناك إذن أزمنة، لو كان الخيار متاحاً بين أيدينا لاخترناها بعينها.

إحساس الإنسان بالزمن مسألة فلسفية تدخل فيها حسابات الفيزياء بشكل جوهري، ولكن الأثر النفسي للإحساس بالزمن مسألة لا تضبطها نظرية ولا تفسرها فرضية. إنها مسألة ترتبط بمخيلة الإنسان ووجدانه، وذاكرته الأولى وكيف تشكلت، ووعيه التوافقي وكيفية اشتغاله. وبالعودة إلى الذائقة الفنية في اختيار الأغاني المفضلة، فإنك حين تشعر بأنك بدأت تعود للوراء بحثاً عن الأغاني والأفلام التي كانت تدهشك في سنوات سابقة، وحين تشعر بأن المنتج الفني لهذه السنوات لم يعد يتوافق مع ذائقتك. فهذا مؤشر بأنك قد بدأت تخرج من صفوف «الجيل الحالي»، وصرت تبحث عن مقعد خاص بين مدرجات الأجيال السابقة.