بقلم - محمّد محمّد الخطّابي: كان للغة العربية تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور، هي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوّة وعظمة وجزالة وفحولة وجمال وجلال لغة الضاد، التي ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعة مرنة سلسة عذبة متفتّحة متسامحة، ينبوع حنان وجنان كأمّ رؤم تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما. تعيش اللغة الإسبانية بدورها في الوقت الحاضر تألقاً وازدهاراً وقبولاً وانتشاراً في مختلف ربوع المعمور، ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من “ أوج” وسموّ؛ فهم يبذلون جهوداً مضنية للتعريف بلغتهم وإظهار كل ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها وأصحابها وأبنائها وأحفادها. ومن ثم تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السبيل في مختلف المناسبات تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني خوان كارلوس الأوّل نفسه. كما إنه يحرص على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية خاصة، في حالة انضمام عضو جديد إليها أو عند تكريم أحد الراحلين عنها. وتصرف الدولة الإسبانية أموالاً طائلة ومبالغ باهظة في سبيل نشر لغتها وثقافتها والتعريف بتاريخها وبآدابها وفنونها وتراثها وموسيقاها. معجم الشكوك الموحّد يهدف التنسيق بين البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان لغاية توحيدها ومحاربة الدخيل لوضع حدّ للغزو اللغوي “الأجنبي”. وقد أعدّ لهذه الغاية معجم إسباني فريد في بابه وهو:«معجم الشكوك الموحّد في اللغة الإسبانية” بمعنى أن أي متحدث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الإسبانية الذي قد يخامره شك أو ريبة حول أي استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة، سيجد ضالته في هذا المعجم الذي تم إعداده بين أكاديمية اللغة الإسبانية وجميع أكاديميات اللغة الإسبانية الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية التي يبلغ عددها 21 أكاديمية. إن الإسبان واعين بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوأها في مختلف البلدان. ويعلمون كذلك أن لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر اللغات الحيّة تأثيراً وانتشارا في العالم أجمع في هذا القرن. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها –حسب التوقعات المستقبلية – ما يناهز على 100 مليون العام 2050. وتعرف اللغة الإسبانية تقدماً مهماً في البلدان العربية وقد أصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والباحثين. وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية. وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب 6 ملايين ناطق بهذه اللغة. كما وأصبحت العناية بها تحظى باهتمام بالغ؛ نظراً لأسباب تاريخية وحضارية وثقافية بين المغرب وإسبانيا بحكم الجيرة. ويرى الملاحظون أن تقدم اللغة الإسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصدفة؛ بل يرجع لعدة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية. ذلك أن نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما إن “الأوج”الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم حقق للثقافة الإسبانية حضوراً مهماً في مختلف المحافل العالمية في مجالات عدة منها النشر والتأليف و المسرح والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والأدب وأخيراً في السينما. وتتعاون إسبانيا مع شقيقاتها في بلدان أمريكا اللاتينية في هذا الاتجاه، لتقوية وتعزيز الهوية الثقافية في ما بين هذه البلدان باعتبارها من الأواصر القوية التي ستعمل على تحقيق تقارب أكبر وتعاون أوثق في ما بينها. وقامت هذه البلدان بالإضافة إلى معجم الشكوك اللغوية الموحّد بإصدار أوّل معجم لتوحيد النحو والحرف الإسبانيين. والإسبان وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية على وعي تام بأن هذه الجهود لا بد أن تؤتي أكلها، إذ لا بد أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم وبالتالي تقدّماً اقتصادياً وازدهاراً سياحياً خصوصاً وأن إسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحية في العالم. إذ تعرف هذه الصناعة عندهم تقدماً هائلاً وتطوراً مذهلاً. وتلعب المآثر والمعالم الحضارية العربية في الأندلس دوراً حاسماً ومحورياً في جذب السياح من مختلف أنحاء العالم مثل قصر الحمراء بغرناطة، وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب. بالإضافة إلى العديد من القصور والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الإسبانية كصومعة لاخيرالدا، وبرج الذهب في إشبيلية، والجامع الأعظم في قرطبة، وقصر الجعفرية بسراقسطة وسواها من المآثر الإسلامية في إسبانيا. قال أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية “نيبريخا” ويعد بمثابة الفراهيدي ومعجمه “العين” عندنا، في مقدمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إزابيلا -المعروفة بعدم تسامحها مع المسلمين- “اللغة القشتالية الإسبانية نسبة إلى قشتالة، كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية”. يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى أن اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحل محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة والجذور والحضور والحضارة ومغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق، يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الإسباني في ذلك الوقت. تأثير لغة الضاد في سيرفانطيس لا ينبغي الحديث عن “أوج” اللغة الإسبانية وتراثها وغناها وانتشارها من دون التطرّق إلى الأصول التي تستمدّ أو تنبني عليها هذه اللغة. فعلى رغم جذرها وأثلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته لغة الضاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي العام 711م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس. وهي غرناطة 1492م. بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية. وقد بلغ عددهم سبعة آلاف العام 1588م، وعشرات الآلاف العام 1609م. وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للتاريخ وحفظاً للأمانة العلمية. فجميع الباحثين والمؤرخين والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان يؤكّدون هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس. ليس في ميدان اللغة وحسب بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ. وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة. بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك حيث أكّد الروائي العالمي خوان غويتيسولو، والكاتب الإسباني أنطونيو غالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وكذا الباحث الإسباني بيدرو مارتنيس مونطافيس وسواهم أنه يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين، دون معرفة اللغة العربية والثقافة الإسلامية. فكيف إذن لا توجد هناك أي إشارة أو دراسة أو تحليل لهذه البديهية في هذه المؤتمرات والندوات والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار التي قد تداهم اللغة العربية، أو حول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك مثل مؤتمر بيروت الأخير حول لغة الضاد؟. بل إن هذا يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب الإسباني الراحل “ كاميلو خوسي سيلا “الحائز على جائزة نوبل في الآداب؛ فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الروافد التي أثرت في اللغة الإسبانية الإشارة صراحة وبكل وفاء إلى هذه الحقيقة. وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية. وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته ورواياته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي. بل هو الذي وضع رواية تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة “رحلة إلى القارية “والقارية من السنام أعلاه وأسفله. هذا رغم أن هذا الكاتب نفسه كان قد أكّد خلال ندوة دولية أخرى أن لغتنا العربية ستصبح في الأعوام القريبة من أولى لغات العالم أهمية وانتشاراً، حيث قال “نحن الإسبان وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالإسبانية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة ستصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحية في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية”. كلمات عربية في اللغة الإسبانية يقول عدلي طاهر نور في مقدمة كتابه “كلمات عربية في اللغة الإسبانية: “ لا جدال في أن اللغة العربية ظلت لعدة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السائدة في العالم. ولا عجب أن نسمع” ألبارو القرطبي” وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي، يستنكر انصراف المسيحيين في إسبانيا عن دينهم ولغتهم. ويندّد بشغفهم باللغة العربية وآدابها وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبها. ولا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له”. ويؤكد الباحث المكسيكي أنطونيو ألاتورّي صاحب كتاب “ ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الإسبانية أنه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الإسبانية، وصار ينقّب في الوثائق والمراجع تيقن له أنّ شيئاً غير عادي كان يحدث له، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة. ويضيف : “لقد بهرني العهد المتعلق بوجود العرب والمسلمين في إسبانيا. بل إنني شعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وانّ أبرز ما استرعى انتباهي، وسيطر على مجامعي في هذا العهد العربي الزاهر هو التسامح؛ فالعرب بعد أن استقروا في إسبانيا لم يكونوا ذوي عصبية. بل إنهم جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم. فساد هذا المبدأ في إسبانيا إبّان وجودهم بها. كان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش، لدرجة أن كثيراً من سكان إسبانيا القدامى أصبحوا عرباً بطريقة عفوية طبيعية. لقد وجدوا طريقة الحياة العربية مريحة وجميلة. وكان دينهم أقل تعقيداً من المسيحية. واتسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة”. ويضيف ألاتورّي:«هناك شهادة الفيض الهائل من الكلمات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الإسبانية ليس قهراً ولا قسراً. بل لقد تقبّلها الناس طواعية واختياراً. لقد كان العرب والمسلمون الذين عاشوا في إسبانيا بحق أساتذة الغرب”.