في مستهلّ هذا المقال أعتذر لكل من سيقرؤني هنا وسيجد ضعفاً في الأسلوب أو ركاكة في اللغة، فأنا لا أعرف كيف ترثى الأمهات!! ولغتي تصبح ركيكة جداً وتصير كلماتي بلا معنى عندما يتعلق الأمر بـ«أمي».

أمي التي علمتني كل ما يمكن للمرء أن يتعلمه، وأورثتني جلّ طباعها، لكنها لم تعلمني كيف أصافح وجه الصباح دون أن أصافح وجهها.. وعلمتني أن كل مرّ زائل، لكنها لم تخبرني أن مرّ فراقها أبدي سرمدي لا زوال له ولا اضمحلال..

لقد كتبت على باطن كفي ليلة رحيلك:

«وحيدة.. خائفة.. مرهقة.. ليلي طويل.. طويل جداً.. فهل سيأتي على وجعي.. صباح؟!».. وما طلع الصباح يا أمي!!

أسبوعان من الفقد.. هل مر أسبوعان حقاً؟!

ما أقسى عجلة الزمان! تمر بسرعة دون أدنى اكتراث لأوجاعنا.. لفقدنا.. أو حتى لمشاعرنا..

كيف مر علي أسبوعان يا أمي دون أن أصافح وجهك كل صباح.. دون أن أعطر شفتيّ بتقبيل جبهتك ووجنتيك.. دون أن تقر مسامعي بآيات الدعاء التي ترتلينها علي في كل وقت؟

أتعلمين يا أماه أنني مازلت أمارس طقوسي اليومية ذاتها؟ الصلاة، الدعاء ذاته أعجز عن تحويره من «رب شافِ جنتي» و«رب لا ترني في غاليتي بأساً يبكيني» إلى «رب ارحمها»..

أنا مازلت يا أماه أفترش سجادة الصلاة في كل حين لأناجي الله طويلاً وأحدثه عنك وأسأله أن لا أفترق عنك!!

مازلت يا حبيبتي أجهز حقيبتي الصغيرة يومياً وأستعد للمبيت في المستشفى معك.. ولا زلت أسترق من ساعات الوجع غفوات قليلة نهاراً حتى أتمكن من السهر على العناية بك ليلاً.. غير أن ليلي ما عاد كما كان دافئاً بقربك.. بل صار خاوياً بارداً فارغاً دونك.

يمر علي مذ رحلتِ شريط معاناتنا طيلة بضع سنوات خلت وكأنه ضرب من الخيال، فقبل بضع سنواتٍ ونيف عندما أخبرني الطبيب الاستشاري بأن مرض أمي عضال وألا سبيل من النجاة منه سوى رحمة الله قررت مع إخوتي وأخواتي حينها ألا نتركها ولو للحظة واحدة فظللنا نتناوب عليها طيلة ساعات اليوم الـ24.. قررت التخلي عن عملي ووظيفتي وطموحي المهني والتفرغ تماماً للاعتناء بها وما ندمت ولو قيد أنملة..!

واليوم عندما أفكر في كل الأحداث التي مرت بنا، أزداد يقيناً أننا ما فعلنا ذلك من أجلها بل من أجلنا نحن فالأم في حياة أبنائها شيء عظيم لا يعوض خسارته شيء ولا يسد فقده أحد فإن رحلت رحل معها كل شيء.. الفرح.. السعادة.. والشعور الحقيقي بالانتماء.

أماه إنني لا أعلم لماذا أتذكر ذلك كله الآن وأنا أخط هذه الكلمات غير أنني أعرف يقيناً أن الأمهات لا يمتن بل إنهن يخلدن في قلوب أبنائهن، فكيف إن كانت أماً مثلك؟! وأي أم مثلك؟!

فأنتِ الأم الذي نعاكِ الأبعدون قبل الأقربين وحزن لفراقكِ كل من عرفكِ؟ أفلستِ تلك الأم الأمية التي لم تمسك في حياتها قلماً سوى في بضع مرات عندما حاولت أن «تفك الخط» ولكنها سرعان ما أدركت أنها تأخرت كثيراً عن تعلم الكتابة، فحولت طاقتها ومجهودها إلى الاجتهاد في تربية أبنائها وبناتها فربت وخرجت للمجتمع رجال أفاضل ونساء فاضلات بينهم الإعلامي والمحامي ورجال الأعمال ومربيات الأجيال. هذا فضلاً عن كونها أماً لكل من عرفها ونهل من معين محبتها وطيبتها اللذين ما كان لهما حد أو مثيل فهي أم لكل أبناء العائلة ولكل من عرفها أو عرفته.

إنني أشهد الله يا أماه أنكِ كنت نعم الأم الحنونة المربية الصابرة، فجزاكِ الله عنا خير جزاء المحسنين الصابرين، وحشركِ مع من أحببتِ محمداً وآله الطيبين الطاهرين.

* سانحة:

رغم لوعة الفراق ووجع الحنين والاشتياق إلا أننا لا نقول إلا ما يرضي الله «إنا لله وإنا إليه راجعون».

رحم الله أمي الحبيبة، وآنس وحشتها وطيب مضجعها وعطر مشهدها وجعل قبرها روضة من رياض الجنة وأسكنها الفردوس الأعلى مع من قال فيهم «إن الأبرار لفي نعيم» «المطففين - 22»، و»إن المتقين في جنات وعيون» «الحجر - 45»، و«أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً» «الكهف - 31»، وجعلها ممن قال فيهم «وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءُوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين» «الزمر - 73».