لعل من دوافع الأبوة والأمومة حماية الأبناء، فيحرص الآباء على تأمين مستقبل الأبناء، والبعض يمتد حرصهم على الأبناء ورعايتهم لهم ليشمل ذريتهم وباقي أبناء قومهم قاصدين من وراء ذلك الأجر والثواب، ومن مظاهر تلك الرعاية أن يوقف الآباء أموالاً لصالح أبناء قومهم كأن يكون عقاراً مدراً يستفاد من ريعة للمحتاجين من الأبناء، فرعاية تلك الأوقاف واستثمارها مسؤولية ألقاها الأجداد على عاتق الأجيال القادمة فعليهم أن يحافظوا عليها ويستثمروها ويستفيدوا منها ثم يسلموها للجيل الذي يأتي بعدهم، وهكذا تتناقل الأوقاف بين الأيادي أباً عن جد، فالأوقاف تسهم بشكل كبير في تنمية وفاعلية المجتمع، وهو تجسيد حي لقيم التكافل الاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر حاملة في مضموناتها العميقة في إطار عملي يجسده وعي الفرد بمسؤولياته الاجتماعية ويزيد إحساسه باحتياجات أبنائه وأبناء وطنه، ويجعله في حركة تفاعلية مستمرة لدعمهم. وكان الوقف بأشكاله المختلفة أبرز الطرق التي قادت النهضة الفكرية والاجتماعية على مدار العصور، وأسهم الواقفون في مساندة القضايا الاجتماعية والحركة العلمية والمشاريع التنموية ودعم الاقتصاد.

ولكن تبقى القضية التي يجب أن نقف عليها وهي: ما مدى كفاءة جميع الأيادي التي تتناقل تلك الأوقاف؟ هل تعرف كيف تستفيد منها وكيف تنتفع من موردها؟ فالوقف له إطار اقتصادي، اجتماعي، وثقافي ويعد أحد العناصر التي تساهم في دفع عجلة التنمية والبناء في المجتمعات، ولذا يظل التحدي الذي أمام هذه الأيادي كيف تستثمر الأوقاف استثماراً صحيحاً؟ كيف تحافظ عليها؟ ثم كيف تنقلها لأيادي الأبناء بطريقة صحيحة؟ تلك الأيادي لا يكفي أن تكون أمينة وتتقي الله وتخاف الله.. تلك الأيادي يجب أن تكون أيادي ذات كفاءة مهنية وعلمية، فالخبرة في مجال الاختصاص أساس مهم للحفاظ على الأمانات، فكم من مخلصين أضاعوا الأمانة عن غير قصد نتيجة لكونهم ليسوا أهل اختصاص، انظر إلى ما قالته تلك الفتاة لأبيها عندما اقترحت عليه استئجار رجل يقوم بمساعدته «إن خير من استأجرت القوي الأمين»، فقدمت القوة على الأمانة وقد أنزل الله تعالى في كتابه العزيز كلماتها في قوله تعالى «قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين»، «سورة القصص: الآية: 26»، ذلك معيار أساسي للولاية على الوقف «القوة والأمانة»، والقوة هنا لا تعني القوة العضلية بل الكفاءة فهي أهم مصدر للقوة، ولذا فإدارة الوقف تحتاج إلى كفاءة لحسن إدارته وخبرة كافية تمكن من تجنب المخاطر التي قد يتعرض لها الوقف، والحرص أن يكون الوقف متنامياً في أصله وريعه حتى لا يضعف أو يهلك مع الوقت.

سادتي الكرام.. كلنا نعرف أن الأوقاف في غالبية الدول الإسلامية بل وحتى غير الإسلامية، تستثمر ويستفاد من ريعها لصالح الموقوف عليهم.

ومن هنا نتساءل، من هم الأكفاء الأقوياء القادرون على الحفاظ على هذه الأوقاف واستثمارها ومن أي اختصاص هم؟ يرى البعض أن خير فئة وأكفأها هم فئة علماء الدين والمختصين في أمور الشريعة ونحن هنا نقدر هذا الرأي ونثمنه فهم أمناء وعلى علم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالأوقاف، ولكن علينا أن نطرح سؤالاً مهماً، هل لديهم القدرة على استثمار الوقف استثماراً اقتصادياً ليحقق الأرباح وينمي الوقف؟ هل لديهم الخبرة في مجال السوق الاقتصادي وأفضل طرق الاستثمار؟ وقد تتفقون معي على أن الجواب سيكون «لا»، فإن من لديهم خبرة ودراية وكفاءة في هذا المجال هم المستثمرون والمختصون في مجال الاقتصاد، وهنا نقف أمام مفترق طرق لرافدين من الاختصاص يجب أن يتوفروا في الفئة التي تدير الأوقاف وهم فئة مختصين في الشريعة، أو فئة رجال الاستثمار والاقتصاد؟

وأرى أنه يجب أن يتقابل هذان الرافدان «علماء الدين مع المستثمرين ورجال الاقتصاد» ليشكلوا الفئة الأمثل لإدارة الوقف، ويمكننا أن نسترشد ونستفيد من تجربة المصارف الإسلامية، وهي تجربة ناجحة، فالمختصون في مجال الصيرفة أداروا المصارف الإسلامية بأسس مهنية وفق المعايير العالمية لإدارة المصارف ولم يهملوا الجانب الشرعي، بل أوجدوا هيئة رقابة شرعية ومختصين في التدقيق الشرعي الداخلي. وأرى أنه من المناسب الاستفادة من تجربة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية في إدارتها والسير على نهجها، فتدار إدارة الأوقاف من قبل مختصين في مجال إدارة العقارات واستثمارها، ويخصص قسم لدراسة وجوه صرف إيرادات الأوقاف وفق الدراسة الاجتماعية لتقدير احتياجات المجتمع. كما ينشأ قسم للتدقيق الداخلي الشرعي، وتشكل هيئة رقابة شرعية. وبذلك تكتمل ركائز إدارة الأوقاف من استثمار وصيانة، وصرف مستحقات في وجهها الصحيح بحسب شروط الواقفين، والرقابة الداخلية والخارجية على مدى الالتزام بالمعايير الشرعية.

لا شك في أن المؤسسات الوقفية بحاجة ماسة إلى الجمع بين هذين الرافدين في هذين الاختصاصين وتطبيقه في إدارة أعمالها وإجراءاتها فالعمل المؤسسي الممنهج هو خير وسيلة للحفاظ على أموال الأجداد وحسن الاستفادة منه فهي أمانة تم نقلها للأبناء يجب أن نحافظ عليها وننميها لتكون ميراثاً مثمراً للأجيال المقبلة، ودمتم أبناء قومي سالمين.