اللغة العربية لغة الجمال والسمو، اللغة التي يتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، لغة قديمة عريقة، وفِي ديسمبر عام 1973 درجت من ضمن لغات العمل الرسمية في الأمم المتحدة نتيجة اقتراح قدمته كل من المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية في الدورة الـ190 للمجلس التنفيذي لمنظمة «اليونسكو»، وعلى أثر ذلك يتمّ كل عام في 18 من ديسمبر الاحتفال بيوم اللغة العربية.

والأجمل أنه في 31 من شهر ديسمبر ولدت كوكب الشرق أم كلثوم.. ولكن ستسألون ما علاقة هذا بذاك؟ ليأتي الجواب أن هناك علاقة وطيدة وقوية في داخلي بين اللغة العربية وأم كلثوم!

سألت عندما كنت بالمرحلة الثانوية في درس اللغة العربية عن العلماء الذين خدموا اللغة العربية، ومن المألوف أن تكون إجابتي أحد أسماء علماء اللغة أمثال أبوالأسود الدؤلي والفراهيدي وسيبويه وابن منظور وغيرهم، لكن كانت إجابتي أنها أم كلثوم!!! فكيف أحيت تلك الفنانة العظيمة ونشرت جميل العربية من المحيط إلى الخليج بل العالم بأكمله!؟ يقول العالم اللغوي ابن جني في كتابه الخصائص «اللغة أصوات يعبّر عنها كل قوم عن أغراضهم، والأصوات لدى الإنسان تتعلم بالاستماع والتحدث».

لقد غنّت أم كلثوم على مدى مشوارها الحافل الذي قارب النصف قرن أكثر من 70 قصيدة فصيحة لقرابة 30 شاعراً من مختلف البلدان والعصور، غنّت من الشعر العربي القديم لبكر بن النطاح، أبي فراس الحمداني، الشريف الرضي، وصفي الدين الحلي، وشَدت بكلمات الشعر الحديث في قصائد عديدة كان لأحمد رامي شاعر الشباب وشاعر أم كلثوم الأول نصيب الأسد منها، وتغنّت بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم والطبيب إبراهيم ناجي وعلي الجارم وكامل الشناوي وطاهر أبوفاشا، وصدحت بكلمات شعراء مسلمين كعمر الخيام العالم الفارسي ومحمد إقبال الفيلسوف الباكستاني. دارت كلمات الشعراء العرب في فلك كوكب الشرق فغنّت للأمير عبدالله الفيصل من المملكة العربية السعودية والهادي إبراهيم من السودان وجورج جرداق من لبنان وعلي أحمد باكثير من اليمن ونزار قباني من سوريا وأحمد العدواني من الكويت.

إذا جبنا الشوارع نسأل الناس عن الهادي آدم فلن يعرفه ‘لا القليل القليل، وإن سألناهم إذا كانوا يعرفون «أغداً ألقاك» سيجيبون بتلقائية تلك التي تغنيها أم كلثوم.

سأل إعرابي عن إتقانه النحو في حديثه فقال:

«ولست بنحوي يلوك لسانه.. ولكن سُلَيْقِي أقول فأعرب».

ذلك الأعرابي يتقن العربية لأنه نشأ ليسمعها لا يفكر في كون الفاعل مرفوعاً والمفعول به منصوباً، لكنها الفطرة تحدو كلماته الفصيحة.

هكذا كان صوت أم كلثوم، نشأ الناس يسمعون الكلمة الفصيحة بصوتها الطروب وبجمال مخارج الحروف فاتزنت ألسنتهم ورقت طبائعهم وسمت أذواقهم، هؤلاء الذين عاشوا في زمن الفن الجميل كان نصيبهم من اللغة العربية الفصيحة الصحيحة كبيراً، فيومهم كان يبدأ بجريدة صباحية وبرنامج إذاعي لمذيع يتقن اللغة العربية ليختموا ليلتهم بطرب كوكب الشرق.

قرأت في كتاب «تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر» للكاتبة نفوسة زكريا عن الأدباء الذين نبغوا من العامية وكانوا يعيشون في أوساط شعبية منهم عبدالمعطي المسيري مؤلف كتاب في «القهوة والأدب» عام 1936 وهو عامل في مقهى بمنطقة دمنهور! وأحمد محمد عرفه مؤلف «ديوان ظلال حزينة «عام 1953 وهو يعمل حلاقاً في مدينة الإسكندرية! والشاعر عبدالعليم القباني عام 1965 حيث كان يعمل خياطاً!

نشرت العربية بالفِطرة في ثوب من الجمال. كان للفن والأغنية دور في صقلها، ولكن أين نحن اليوم من الفنون العربية الفصيحة؟! هل جيل الشباب يخشى لغته أم لا يعيرها اهتماماً.. أين هي الأصوات الجديدة الشابة التي تغنّي باللغة العربية؟ هناك بعض من الأعمال الفنية العربية الفصيحة لبعض من الفنانين العرب نفخر بها، ولكن نحن بحاجة إلى تعزيز الفنون الشبابية باللغة العربية الفصيحة بشكل أوسع وأكبر في مختلف المجالات سواء كان بالأغنية أو المسرح أو الكتابة لنفخر كما يفخر ويعتز غيرنا بلغتهم، فيوم الاحتفال باللغة العربية ليس يوماً نتغزل به بجمال لغتنا، ولكن نريد في هذا اليوم أن نفخر بإنجازاتنا.. آملين بجيل مِن الشباب يعتز بلغته الأم.