عندما يتم الآن تأصيل البعد الثقافي للمحرق بكافة أبعاده وأشكاله، فلا شك في أن جزيرة المحرق تزخر بتاريخ أصيل من الشواهد التي تشير إلى بعد تاريخي وزمني ليس بالقليل يستوجب الرصد، لطالما استلهم هذا البعد الثقافي والزمني كتاب التاريخ وجغرافية المكان، فضلاً عن رصد لبداية الحركة التعليمية والأدبية والثقافية في المحرق.

لعل الإشارة إلى أن المحرق تمتلك عدداً من الشواهد والمفردات التي جعلتها موقعاً مميزاً لرصد وتأصيل للثقافة بشكلها العام في البحرين. ولعل من هذه المزايا هي انتشار عدد من مواقع المحرق الأثرية بنمط استلهم عدداً من الدراسات العربية والأجنبية. ومنها أيضاً التواجد المسبق لسلطة الحكم في المحرق خلال حكم المغفور له الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الذي اتخذ من وسط المحرق موقعاً لحكمه الذي كان له الأثر في نمط بناء القصور والبيوت المحيطة بمركز الحكم.

ومنها التاريخ العميق للمحرق وموقعها الاستراتيجي كجزيرة تتصف بالحماية الطبيعية نظراً لضحالة المياه المحيطة بها ووجود عدد من القلاع حولها وسور المحرق القديم الذي تم رسمه بخرائط تعود إلى عام 1825 عبر رحلات من الغرب إلى الشرق.

ومنها أيضاً أن المحرق تتمتع بموقع تجاري مميز وموقع اقتصادي للبحرين. ومنها أيضاً أن المحرق شهدت انطلاق مشروع التعليم ونشء المعرفة الذي أستهل هذا المشروع النهضوي بوجود أسماء لامعة لأساتذة من المحيط العربي بأكمله أثروا في ثقافة المجتمع البحريني فضلاً عن المجتمع الخليجي، فالسبق انطلق من المحرق.

ومنها أيضاً نمط النسيج المعماري والنمط الحضاري خلال القرن التاسع عشر الذي بكل أسف أزيل أكثرها وتم الاحتفاظ بالعدد القليل، ولايزل القليل شاهد على نمط عمران مدينة المحرق المتميز. ومنها أيضاً نشأة مؤسسات ثقافية وأدبية انطلقت من المحرق، حين أسس شيوخ ورجالات المحرق مجالس الفكر والأدب والكتابة والطباعة وظهور مؤسسات أدبية كانت مقصد كتاب ورجال وطأت أقدامهم المحرق للوقوف عن قرب من تلك الحركة الأدبية والفكرية التي انطلقت من المحرق.

ولا ننسى الإشارة أيضاً إلى المؤسسات الدينية التعليمية الأهلية التي تجذرت بين طرقات المحرق وعبر أهالي المحرق، التي زادت على إحدى عشرة مدرسة أهلية دينية أسستها عوائل المحرق لتعليم أسس الدين والفقه والحساب واللغة. إذن، لم تكن جزيرة المحرق بمعزل عن تحولات عمرانية وفكرية والأدب في المنطقة الإقليمية منذ عشرينات القرن الثامن عشر، أي بعد استقرار الشيخ عبدالله بن أحمد الفاتح في جزيرة المحرق. فالمحرق، مدينة استطاعت أن تضع نفسها على الخارطة الإقليمية والدولية، بالرغم من صغر مساحتها. فهي ارتبطت بإقليم الخليج، فهي خليجية الطبع، وارتبطت فكرياً وقومياً بالوطن العربي بأكمله، فهي عربية الصبغة والصفة، وارتبطت بالحضارة الإسلامية، فهي إسلامية اللون والشكل والهيئة، فلا عجب أن حازت المحرق مؤخراً على لقب عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2018، حيث منحت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة المحرق، هذا اللقب نتيجة عراقة الموقع والتاريخ، فهي مدينة خليجية وعربية وإسلامية.. ومعهد الأدب والعلم والثقافة والتاريخ والتراث والعمران المتميز، التي لاتزال شواهدها ترصد هذا التاريخ الزاخر بالرغم من سيطرة عوامل الحداثة بحكم دوران الزمن. تمتلك المحرق أكثر من 200 عام من التاريخ ونشأة العمران المتميز ذات النقوش المعمارية الفريدة وللثقافة والاقتصاد والتجارة والحياة الحاضرة، والتي كانت محطة للدراسة. أما خلال الزمن قبل المعاصر، فقد ظلت المحرق العاصمة السياسية والاقتصادية والإدارية للبحرين حتى نهاية العشرينات من القرن الماضي. كانت المحرق الميناء الحيوي للبحث عن اللؤلؤ وميناء مهماً بذاته بين حضارات الشرق والغرب وخاصة خلال فترة تايلوس ومركزاً مهماً لتلك الفترة، فلا عجب أن يصل خلال 1904 عدد سفن البحث عن اللؤلؤ والتي انطلقت من المحرق ما يزيد على 600 سفينة و11555 رجلاً بحاراً، بينما وصل عدد السفن من البحرين بأكملها 917 وبنحو 17633 بحاراً.

أيضاً نشير إلى أنه خلال أواخر القرن الثامن عشر، تصدرت المحرق لتكون مدينة إسلامية الطبع ونمط البناء ومنها لعبت دور العبادة ومساجدها الكبرى قريبة من موقع الحكم، كموقع التشريع الأول في البحرين، وظلت كذلك حتى وقت ليس بالقصير قبل أن تنتقل إلى مؤسسات و محاكم شرعية. ظلت المحرق ذات أهمية قصوى حتى ما بعد فترة اكتشاف النفط في البحرين بشكل عام أي حتى فترة بداية الثلاثينات. لا شك في أنه مع التحول من نمط الاقتصاد من البحر إلى النفط الذي كان قد ترك أثراً قد يكون ملموساً في التحول في البحرين، فنمط العيش السابق قد تحول إلى نمط جديد ولربما فقدت المحرق جزءاً من النمط التقليدي إلى النمط الحديث من التحضر. لكن نشير إلى أنه لاتزال المحرق تحتفظ بذلك الطابع والنمط التاريخي الذي هو تأصيل لثقافتها ولصدارتها بين مدن الخليج العربي كموقع للتراث.

أضف إلى ذلك، أن مكونات وعناصر نمط العيش التقليدي في المحرق والنمط الحضري القديم لايزال قائماً ومحتفظاً به حتى اليوم. لقد ساهم وصول حكم آل خليفة في البحرين ومن ثم تواجد مركز الحكم في المحرق في بناء مدينة المحرق على نمط فريد، ومن ثم بناء مركز المدينة وما حولها الذي تميز بوجود قصور لأبناء سلطة الحكم وبيوت لتجار اللؤلؤ والتجارات الأخرى المرتبطة بها. فلا عجب أن تنتشر عدد من البيوت الأثرية خلال نهاية القرن السابع عشر ومن ثم الثامن والتاسع عشر حتى هذا الوقت على هذا النمط الحضري المميز، كما ظلت المحرق محتفظة بهذا الطابع الإسلامي في البناء حتى الوقت الحاضر.

أخيراً، في مقابل عوامل التحديث والحداثة السريعة التي شهدتها البحرين، استطاعت المحرق التمسك بعدد من الأنماط الاجتماعية الملموسة، هذا يرى بشكل واضح في التركيب الحضري بالرغم من فقد الاتصال المباشر مع مهن تتعلق بالبحر. كما تحتفظ المحرق بالقصور وبالبيوت المعروفة وبيوت رجال الأعمال ذات الصلة بمهن المحرق القديمة والقلاع والمساجد والدور والعمارات التقليدية في البناء بأنواعها، وعدد من الآثار الاجتماعية والأدبية والعلوم وعادات الاجتماع التقليدية بين ساكني وقاطني مدينة المحرق، وربما ترى هذه الآثار واضحة حتى الوقت المعاصر.