^ يبدو أن الهجوم على الثقافة والمشتغلين بها قد بات البند الأول ضمن أجندة المتشددين في أكثر من بلد عربي، وقد تمت ترجمة هذا الهجوم بأشكال مختلفة، تتراوح بين الاستخفاف بها، وبالمشتغلين فيها، وبين تحريض الدولة والمجتمع عليها، وصولاً في بعض الأحيان إلى الهجوم المباشر من خلال حملات مباشرة وضارية في بلدان عربية شكلت الثقافة فيها على الدوام رافداً من روافد التقدم والنماء والإشعاع، حتى أصبحت مثل هذه الهجمات توصف بكونها غزوات، حيث يقوم جمهور غاضب بمهاجمة رجال ونساء يحتفلون باليوم العالمي للمسرح مثلاً، أو يشاركون في مهرجان للموسيقى، فيتم شتمهم وتعييرهم ووصفهم بأنهم خارجون عن الدين والملة، وقد يطالبون حتى بتطهير البلاد منهم ومن مروقهم. الهجمة على الثقافة (موسيقى ومسرح وصورة وتشكيل وفكر وأدب وكل شيء يقع تحت عنوان الثقافة) أصبحت في ظل الأجواء الحالية المصاحبة لغبار الربيع العربي عملية ممنهجة، مهما تعددت أسباب الهجوم، فالهدف واحد، وهو الحد من مساحة الحرية التي تتحرك فيها هذه الثقافة التي عادة ما توصف بأنها معادية للسياق الثقافي-الاجتماعي المحلي، تلك الحرية التي لم تتمكن حتى أنظمة الاستبداد أن تقضي عليها. إن هذه (الثقافة) -المارقة- أصبحت في عرف هذه الجماعات نافذة للتغريب، ونافذة للتحرر، ونافذة للخروج عن القيم، ولذلك فالمطلوب الاستيلاء عليها، وسد منافذها وإغلاق أبوابها والطرق الموصلة إليها، والتضييق يتم بالتشويش عليها، بإحراجها وبوصفها بأنها سبب في الاختلاط، وبأنها في النهاية تكاد تكون أقرب إلى فعل من أفعال الشيطان، ولذلك يجب تحريض الدولة وجمهور المواطنين عليها وعلى المثقفين بوصفهم بأبشع النعوت، وبأنهم خارجون عن القيم السائدة ومارقون ومستغربون... إلى آخر هذا الخطاب الجاهز والنموذجي في عدائه للثقافة عامة، والثقافة المتحررة خاصة. إن الهجمة على الثقافة بهذه الصورة العنيفة الضاغطة لا تبدو مبررة ولا حتى مفهومة إلا في سياق أيديولوجي يحاول فرضه على الثقافة والمثقفين دون جدوى، لأن الثقافة أساسها الحرية، والمثقف لا يمكن إلا أن يتنفس الحرية ويعيش بها ومن أجلها، وأن أي نقاش رشيد حول الثقافة يفترض أن يدور حول حماية الحرية الثقافية وتعزيزها ودعم الإبداع وتوسيع مساحة التنوع في الأشكال التعبيرية والمزيد من الانفتاح على الثقافة المحلية ودعمها وتعزيز دور المثقفين المبدعين، مع الانفتاح على العالم وثقافاته. وضمن هذا المنظور فإنه وبقدر ما يجب جعل الدولة متصالحة مع الثقافة المحلية وقيمها لا مهمّشة لدورها ولا محقرة لها، بقدر ما يجب التعبير عن التخوف من هذا المد المتشدد البعيد عن الاعتدال والتسامح المعتاد في البيئة المحلية، لأن الاعتدال كي يكون منجزاً يجب أن يتلازم مع تغيير جوهري في خطابه الثقافي، لاسيما في ما يخص رؤيته للثقافة والفنون الإنسانية، إذ ماتزال هذه النظرة المتشددة السائدة حالياً مشبعة بالفكر التكفيري للثقافة الجمالية، هذا التابو المتحكم بهذه الذهنية، لا يمكن أن يتزحزح ما لم يترافق التوقف عن تكريس مطلقات والحد من الحريات خارج القانون، هذه العقلية التي تجعل من الآخرين أقواماً ضالين، يناط دور هدايتهم إلى هؤلاء المتشددين الذين عليهم وحدهم، يقع “عبء” تصحيح انحراف مسار الحضارة البشرية في العالم أجمع. همسة: في كتابه “العمدة” كتب جون جاك روسو “في العقد الاجتماعي ولد الإنسان حراً لأن الحرية معطى لا يبارح الماهية الإنسانية، لأن الديمقراطية لا تبلغ امتلاءها الواقعي إلا إذا كان للمواطنين إمكانية التعبير ومواجهة الأسباب التي تهدد حريتهم