في كل زمان ومكان.. وبعد مضي سنوات من الأعمار.. وتعدد ظروف الحياة.. وتنوع نوائب الدهر.. ما بين ضحكة وسمر وتذكر للذكريات الجميلة.. وما بين حزن وهم وقطرات من الدمع الساخنة.. وما بين ألم وكدر وتوجع قلب الحليم.. ما بين هذا وذاك.. واختلاف فصول الحياة.. حتماً ستكون النتيجة الحتمية في نهاية المطاف الفناء الأبدي عن أعمال الحياة، وانتهاء وتيرة السعي الحثيث وخلافة الله تعالى في أرضه.. حتماً سنغادر دنيا البشر التي أثقلت قلوبنا بهموم العيش، ومشكلات الناس، وحسدهم وحقدهم.. لتكون النتيجة ثمرة ما عمله المرء في دنياه.. بخاتمة تختم بها حياة البشر.. وتنتقل إلى حياة البرزخ.. حياة أخرى لها وقعها الخاص وعالمها المجهول.. لن يؤلمك ألم الرحيل.. لأنك ستتذوقه يوماً ما.. ولكن يؤلمك من يسبقك وتفتقد بصماته المؤثرة في حياتك، وحكاياته وإطلالاته ومواقفه التي لا تنسى.. هكذا هو المرء يتناسى أنه سيرحل.. لذا يشغل نفسه بالتفاهات، ويقف نداً قوياً أمام كل الناس.. يحب أن يحقق لذاته الكثيرة، ويحب أن يكون الأوحد بين البشر.. وفي نهاية المطاف ماذا سيجني.. لا شيء.. سوى صالح العمل، والأثر الذي تركه تتحدث عنه الأجيال.. حجي علي رحمه الله.. يتشارك اسمه مع اسم والده رحمه الله.. ويتشابه في دماثة خلقه وأصالته وحبه للمسجد وقراءة كتاب الله الكريم.. كانا إذا التقيا بعد أن منعهما المرض من ارتياد المسجد، احتضن كل واحد منهما الآخر وبكيا.. لأنهما يعرفان أن أعمارهما قد فنيت ولم يتبقَ منها إلا النزر اليسير.. حجي علي ليس كمثل باقي الناس.. أخلاق يحملها بنفسه اللطيفة وقلبه المحب لكتاب الله الكريم.. كان لي الشرف أن أكون بقربه خمس مرات في اليوم والليلة لمدة تقارب سبع سنوات.. فمنذ أن تم تعييني إماماً لمسجد الإيمان بحالة بوماهر كان يؤذن فيه بصوته الشعبي الجميل الموروث من أجيال الماضي الجميلة.. وكنت أسمع هذا الصوت في بيتنا القريب من المسجد خمس مرات منذ تأسيس المسجد في العام 1982.

حجي علي.. وعلى الرغم من كبر سنه إلا أنه كان يحرص على التبكير عند الحضور للمسجد، يفتح الباب ويفتح المكيفات واحداً تلو الآخر.. ثم يلبس نظارته ويترنم بآيات الله البينات من مصحفه الكبير إلى أن يحين وقت الأذان.. يؤذن ثم يجلس في الخلف يواصل ورده القرآني.. وفي تلك الأيام لم تكن هناك ساعة لمواعيد الإقامة.. وكنا نعتمد على ساعة اليد ونقدر وقت الإقامة.. وفي أحيان كثيرة أذهب إليه أنبهه لموعد الإقامة.. لأنه يسترسل في قراءة ورده القرآني.. عندما أغيب كان رواد المسجد يتلذذون بصوته الشذي الذي يذكرنا بترانيم الزمان الجميل.. كان رحيماً على الصغار في المسجد.. ويحمل معه دائماً بعض أنواع الحلويات ويوزعها عليهم.. وبنفس الأسلوب يوزعها على أطفال الفريج في ذهابه للمسجد والرجوع منه. كان محبوباً من رواد المسجد بأخلاقه الرفيعة ووجهه الوضاء وحبه للخير.. عندما منعه المرض من مواصلة الأذان.. زرته في المنزل.. فإذا الدموع تسيل على خده بعد 16 عاماً قضاها مؤذناً بمسجد الإيمان.. وبعدها منعه المرض من الوصول للمسجد.. وبعد إعادة بناء المسجد وافتتاحه في أغسطس من العام 2011، حرص على زيارة المسجد ورفع الأذان في صلاة العصر.. ومازلت أحتفظ بهذا الفيديو.. حجي علي.. رحل عن دنيانا إلى بارئه الكريم.. لم يكن بالنسبة لي أي شخص عادي.. بل والدي الحبيب وحبيب قلبي الذي تشرفت أن يكون لي مؤذناً لسنوات طويلة رغم صغر سني.. تعلمت منه الكثير، وكان شمعة تنير المسجد بوجهه الوضاء وجلسته البهية مع كتاب الله الكريم.. ويكفيني فخراً باحترامه وتقديره كلما رآني أسمعني كلمة «شلونك ملا بدر».. بعد دفنه رحمه الله جلست عند قبره طويلاً.. وتأملت تلك الجموع التي انصرفت تعزي أهله.. وما علمت أنها لحظات حاسمات للدعاء له.. شريط من الذكريات مرت أمامي وأنا أجلس أدعو.. لم أستطع البوح بها لأحد.. ولكن دعوت ربي أن يغفر لي ذلك التقصير المر في حياتي.. تخيلت نفسي أني سأكون في هذا الموضوع.. فيا ترى ماذا أعددت لهذا الموقف، وماذا قدمت، وكيف كان شعوري في أيام تسرق أحلامنا وآمالنا بسرعتها المخيفة.. حجي علي رحل وهو طاعن في السن.. ولكنه لم يترك قراءة كتاب الله الكريم حتى وهو في أقسى مراحل مرضه.. هكذا لمحته.. وهكذا قص علينا أهله..

حجي علي.. موجود دائماً في حياتنا ولكننا لا ننتبه لأثره ولا نتفحص أوصافه إلا بعد أن يفوت علينا قطار العمر، وفي مرحلة لا نتمكن من خلالها أن نكون بنفس أوصاف الشخصية المنشودة.. كلما رحل عنا «حجي علي» من جديد كلما افتقدت شمعة أخرى في حياتي كنت أتأمل أيامها الحلوة وأستأنس بها وإن لم أشاهدها في كل حين، أو قصرت في حقها.. ولكن هي الأرواح المتآلفة في محبة الله الكريم.. شخصية بنفس شخصية حجي علي لا تجدها في كل وقت.. بل هي البقية الباقية من جيل عشق التحدي وكافح وتعب من أجل أن يعيش ويوفر لقمة يومه له ولأهله.. لجيل عشق حب ربه، فكان المسجد الملاذ الآمن لنفسه، وكتاب الله وذكره أنيسه في وحشته.. هو الجيل الذي يرى رزقه في علاقته مع ربه، ومحافظته على صلاته، وقراءته للقرآن، وصلته لأرحامه، وحبه للخير، وسعيه في حاجات الآخرين، وتصدقه على الفقراء والمساكين ولو بالشيء اليسير..

حجي علي رحل ولم ترحل أطيافه وذكرياته وأيامه وصوته الندي.. رحل كما رحل «حجي علي» والدي الحبيب الذي كانت لي معه أجمل الذكريات في مسجد المعاودة أترنم بصوته الشذي في الصلوات.. هو جيل من جيل الكبار وشامة من شامات الخير لا تتكرر كثيراً في دنيا البشر.. أين هم من عاشوا ليومهم، وعاشوا لرزقهم، وعاشوا من أجل أن يقطفوا ثمرات الترقي الدنيوي، ونسوا أن الإنسان بسمته يعيش من أجل ربه، وإن تعامل مع غيره، تعامل ليرضي ربه، ويحافظ على كرامة غيره.. هي الدنيا آجال محدودة، وآمال مقدرة.. والسعيد من أسعد نفسه بطاعة ربه، وعاش لله ومن أجل الله. رحم الله حجي علي بواسع رحمته ورحم الله كل الأحباب وموتى المسلمين، وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة وجمعنا بهم في مستقر رحمته، وأحسن خاتمتنا من هذه الدنيا.

* ومضة أمل:

اربط عملك بالله وحده.