طرق جزيرة المحرق وأزقتها الضيقة المطلة على سواحلها وثقافتها ونمط بيوتها وتداخلها العمراني بذات الشكل المميز، خير شاهد على مرحلة هامة تكوينية في تاريخ التكون السيادي الاقتصادي للبحرين. هذه الثقافة من نمط العيش والمكانة وهذا الشاهد الذي فرض نفسه على منظمة «اليونيسكو» ليتم تسجيله على قائمة التراث الإنساني لمحتواه الرصين، معبراً عن ثقافة مرحلة. طريق اللؤلؤ بالمحرق، هذا الشاهد الذي رفض الرحيل عن الذهن والموقع، ولايزال يذكر بمرحلة مفصلية شكلت اقتصاد البحرين قبل أن تتفجر وتتدفق آبار النفط والغاز في البحرين بشكل عام وتحول الاقتصاد إلى مرحلة استخراج وتكرير وبيع النفط من جزائر البحرين. بعد العام 1932، قد اتجه كثير من البحرينيين للعمل في شركة نفط البحرين «بابكو»، مع اكتشاف النفط في البحرين، وبالرغم من أن البحرين تحولت إلى مرحلة جديدة، انقضت من خلالها ثقافة البحر والشراع القديمة التي امتدت تقريباً قرناً من الزمان، انضم أبناء المحرق والبحرين بشكل عام إلى العمل في شركة النفط وشركات أخرى مماثلة، بالرغم من هذا التحول، ظلت جزيرة المحرق متمسكة بنفسها وثقافة الفرجان والطرق الضيقة وأن الزمان لم ينقضِ، وأن آثاره لاتزل متواجدة. فما اللغز الذي جعل المحرق تتميز عن غيرها من مناطق الخليج العربي حتى امتد هذا التميز إلى الوقت الحاضر. وفي هذا السياق، فقد تصدرت جزيرة المحرق وقراها وفرجانها الممتدة على شواطئها العديدة من المتهمين لذاك الزمان القديم. لم لا وشواطئ المحرق قد حكت حياة وقصص وذكريات وآلام الذين سطروا بسواعدهم أسمى معاني العمل الدؤوب والتي قد تكون من نسج الخيال في زمن العيش الصعب. فيا لها من ثقافة ثرية من زمن مضى، امتزجت فيها عدة ألوان مؤثرات، لم تتبدل حتى هذا الوقت.

بحق لقد أبهرت التركيبة العمرانية القديمة وطيبة مسلك أهل البحرين بشكل عام العديد من راصدي حركة رصد علوم الاجتماع، فوثقت ورصدت كنزاً من المراجع وصور «الفضية القديمة» عن تاريخ البحرين ومدينة المحرق بشكل خاص. ولعل ما تتميز به جزيرة المحرق على باقي مدن وحواضر المنطقة العربية، أن بيوت المحرق وطرقاتها كانت قد بنيت من الصخور البحرية التي تتميز بالقوة والصلابة، وهي لاتزال موجودة في العدد من البيوت في المحرق حتى اليوم، بخلاف بعض مدن الخليج العربي التي مارست مهنة الغوص والتي بني بعضها من سعف النخيل وهي البرستية. هذا البناء الحجري هو الذي شكل النمط المعماري للمدينة وهو خير شاهد على تلك المرحلة حتى اليوم. ولعل ما يميز تلك البيوت التي بنيت من حجر البحر، هو أنها شيدت بنمط وثقافة إسلامية حيث فيها احترام لحرمة البيت والطريق واحترام لساكني هذه المنازل المطلة على البحر، بالرغم من ضيق الطرق وبناء البيوت وفتح الطرقات الضيقة وتداخل البيوت، فترى الطريق والمسجد والمجتمع والمجلس والسوق لكل نمطه المحافظ. ولعل شاهداً آخر للمحرق أنه قبل رواج اللؤلؤ الصناعي الذي روجت له اليابان والذي كان تصنيعه أقل كلفة من اللؤلؤ الطبيعي المستخرج من أعماق البحار وتدني تجارة الآخر، أن جزيرة المحرق احتضنت وفق إحصاءات عام 1904 ما يقارب 600 سفينة بمجموع 11555 رجلاً، بينما البحرين بمجملها احتضنت 917 سفينة بمجموع 17633 رجلاً. فضلاً عن هذا، فإن الأسطول البحري التجاري للبحرين، امتلكت المحرق النصيب الأكبر منه وفق إحصاءات أخرى عام 1906. كانت المحرق مأوى لعدد من حكام البحرين والأسرة الحاكمة منذ زمن بعيد. وأضاف هذا التواجد إلى مدينة المحرق بعداً تاريخياً في العمارة القديمة الرائعة والنقوش السائدة من ذلك الزمان. لم يكن استيطان جزيرة المحرق للحكم اختياراً عفوياً، إنما هو في حقيقة الأمر ذو علاقة بالموقع الاستراتيجي لجزيرة المحرق، إذ تأتي جزيرة المحرق على خطوط الملاحة في منطقة الخليج العربي، ولذا فإن ارتباط الاستيطان في المحرق بالموقع الاستراتيجي لقلعة حالة بوماهر الحربية التي تقع على جنوب جزيرة المحرق، فهذا الموقع يشكل نقطة هامة للمضيق بين الجزيرة الأم والمحرق. إذن مدينة المحرق لم تولد متكاملة البناء، إنما تطورت عبر السنين والأعوام بواقع التأثر بتجارة استخراج اللؤلؤ، حيث تطورت معمارياً بشكل غير عفوي النمط إنما عبر عدة مؤثرات ومنها اقتصاد اللؤلؤ، حيث سكن تجار اللؤلؤ في المناطق المحيطة ببيت الحكم في المحرق، وهذا هو سر هذا النمط المتميز للمدينة. لا عجب في أن تتحول مدينة المحرق إلى موقع يرصد تاريخ تلك الحقبة من خلالها. لا عجب أيضاً، أن تضم مدينة المحرق عدداً من الأماكن الأثرية مثل بيت حاكم البحرين آنذاك، وهو بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وبيت الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة، وبيت الشيخ حمد بن عيسى، وبيت الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ومركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، فهذه البيوت مثلت نمطاً معمارياً متميزاً، فضلاً عن بيوت كثيرة للعوائل البحرينية وبيت عبدالله الزايد وبيوت لنوادٍ ثقافية، وعدد كبير من المساجد الأثرية وسوق القيصرية وسوق الخاروو الشعبي وعدد كبير من مجالس المحرق القديمة. من هذه الخلفية، كل هذا النمط المعماري جاء نتيجة للموقع الاقتصادي لجزيرة المحرق. كانت جزيرة المحرق أيضاً موقعاً ذا أهمية لحكام البحرين، لذا هي اليوم عاصمة ناطقة لثقافتها، فمعظم البيوتات الأثرية التي تحولت إلى مقاصد ثقافية سوف تجدها في جزيرة المحرق. لقد كتب العديد من كتاب التاريخ والرصد عن ثقافة جزيرة المحرق المتميزة، فتم جمع الوثائق والصور القديمة للبيوت ولبيوت ربما قد أزيلت بكل أسف وعن التاريخ المحوري لجزيرة المحرق. الكتابة عن تاريخ مدينة المحرق هي ثرية بحد ذاتها، إنه التاريخ الذي أبهر الكثير من القراء ومتابعي الحركة الثقافة في البحرين، وغيرهم من المهتمين بتاريخ منطقة الخليج العربي بأسرها. فجزيرة المحرق كانت مقصد الكثير من مواطني وتجار دول الخليج منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، لما تتميز به هذه الجزيرة من مهن حرفية عريقة مثل صناعة السيوف وحياكة أشرع السفن وصناعة السفن ومهن معيشية أخرى ارتبطت بمهنة استخراج اللؤلؤ. المحرق مدينة الأدب والشعراء والتاريخ والعلوم الدينية ومأوى علماء الدين والشريعة، فلا عجب في أن تكون أول مدرسة في تاريخ التعليم النظامي في البحرين والمنطقة في مدينة المحرق سنة 1919. فلا عجب أيضاً أن يكون منزل الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، وموقع النادي الأدبي وبيت الأديب عبدالله الزايد والمكتبة الخليفية ونادي البحرين، وهي محطات إشعاع للأدب والشعر والتاريخ في أروقه المحرق. درس في مدارس المحرق بعد تدشين مدرسة الهداية الخليفية خلال العشرينيات من القرن المنصرم عدد كبير من الأساتذة والأفراد من الذين قدموا للبحرين خدمات جليلة خدمة للوطن. لقد نقـــش اقتصاد اللؤلؤ في المحرق أثراً واضحاً، فـــــي النمط والثقافة، فحقاً إن طريق اللؤلؤ بالمحرق هو الشاهد الذي أبى الرحيل.