ما لفت انتباهي في قصة الجلسة التي عقدت في الكونغرس الأمريكي واستضافة نشطاء حقوقيين بينهم فنانان مصريان هما عمرو واكد وخالد أبوالنجا والتي ترتب عليها فصلهما من نقابة الممثلين، أن بيننا في البحرين وبين تلك الحكاية المصرية عدة قواسم مشتركة، أهمها ترددنا في حسم إشكالية الاستعانة والاستقواء بقوى خارجية هل نعدها خيانة عظمى؟ أم هي مجرد نشر أخبار كاذبة؟

ما يجمعنا نحن ومصر وبقية الدول المستهدفة هو التردد التشريعي حول الحد الفاصل بين السيادة والأممية رغم المستجدات التي طرأت على عالمنا العربي بعد الربيع، والتي تداخلت فيها هذه الحدود بدرجة صعب علينا تفكيكها.

من يتخطى تلك الحدود من أمثال خالد أبوالنجا أو مجموعة تحمل الجنسية البحرينية أو العراقية أو غيرهم يحتجون بأنهم يستندون إلى قيم إنسانية أممية لا تحدها الحدود السيادية، ويحق للمواطنين من أي دولة الاستعانة بقوى أجنبية كي تفرضها على الشأن المحلي.

الإشكالية القانونية التي لا بد أن تحسم في دولنا العربية هي تحديد الخط الفاصل بين ما يجوز وما هو مجرم في التواصل مع القوى والتنظيمات الخارجية، فحجة الاثنين كانت واحدة، البحرينيين والمصريين، بأنه ما دام يجوز للحكومات الاتصال بالحكومات الأجنبية وبالاتصال بالمنظمات الدولية، فإنه يجوز للأفراد أن يقوموا بذات الشيء!! مع الأخذ في الاعتبار أننا لا نتحدث عن أعضاء منتخبين يمثلون الشعب اختارهم للتحدث باسمه، بل عن أفراد يدعون أنهم يمثلونه ويتحدثون باسمه دون وجه شرعي ويطالبون ويستجدون التدخل الأجنبي والضغط على حكوماتهم.

الإشكالية القانونية عندنا أنها في تجريمها لتلك الاتصالات لم تراعِ خطورتها وما يترتب عليها، بل يؤسفنا أننا عدلنا من قوانيننا عام 2012 تحت ضغوط الربيع العربي فقللنا جداً من تجريم هذه الأفعال وهذا كان هدفهم، رغم أن تلك الأفعال يترتب عليها عقوبات وحصار اقتصادي وغيره من التبعات التي تضعف الدولة، فصنفناها تحت بند الأخبار الكاذبة فجاءت التشريعات تهون وتقلل من خطورة هذا الفعل كما هي المواد القانونية التالية:

1ـ المادة 123 من قانون العقوبات، والتي تعاقب على السعي لدى دولة أجنبية أو التخابر معها أو من يعملون لمصلحتها بما يضر بمصالح البلاد، وتقرر لها عقوبة السجن مدة لا تزيد على خمس سنوات في زمن السلم. 2ـ المادة 134 من قانون العقوبات، والتي تجرم كل مواطن إذا أذاع عمداً في الخارج أخباراً أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة حول الأوضاع الداخلية للبلاد، بما من شأنه إضعاف الثقة المالية بالدولة، أو النيل من هيبتها أو اعتبارها، أو باشر أي نشاط في الخارج من شأنه الإضرار بالمصالح القومية. والعقوبة المقررة هي الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر والغرامة المالية أو بإحدى هاتين العقوبتين. 3ـ المادة 168 من قانون العقوبات، والتي تعاقب على إذاعة أخبار كاذبة مع العلم بأنها من الممكن أن تحدث ضرراً بالأمن الوطني أو بالنظام العام أو بالصحة العامة متى ترتب على ذلك حدوث الضرر. وعقوبتها الحبس مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة المالية أو بإحدى هاتين العقوبتين. كما نرى أن تلك عقوبات لا تتناسب وحجم التبعات التي تنتج عن تلك الاتصالات، ولا تتناسب مع المتغيرات التي طرأت على أنواع الحروب الجديدة، ولا يعدها «خيانة» إذ لا يستعمل القانون عبارة الخيانة العظمى إذ إن هذا التعبير قد جرى فقهاً على الجرائم الماسة بأمن المملكة من جهة الخارج، والتي من بينها جريمة المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها (المادة 112 عقوبات وعقوبتها الإعدام)، والالتحاق بقوات مسلحة في حالة حرب مع المملكة ورفع السلاح ضدها (المادة 113 عقوبات وعقوبتها الإعدام) وكذلك جرائم السعي والتخابر مع دولة أجنبية أو مع من يعملون لمصلحتها بمختلف صورها، والتوصل إلى أسرار الدفاع وإفشائها. وتصل عقوبة جرائم التخابر إلى الإعدام إذا كان قد حصل بقصد ارتكاب أعمال عدائية ضد المملكة (المادة 122 عقوبات).

تلك النوعية من الاتصالات التي تصنف على أنها خيانة عظمى لا تلك النوعية ترتب عليها أعمال عدائية لم يكن أحد يظن أن الاتصالات الجديدة ستأتي بحروب جديدة.

الاتصالات التي تتم الآن كما حدث برعاية توم مالينوفسكي واحدة من أدوات القوى الناعمة في مشروع الفوضى الخلاقة، واستخدمت لاستخراج عقوبات وحصار اقتصادي على الدول العربية ولتحريض المنظمات واللجان في السلطات التشريعية التشريعية، وكانت إحدى أدوات الفوضى التي حدثت باسم الموجة الأولى للربيع العربي ومازالت، وما لم نكن واضحين جداً بنص قانوني يدينها باعتبارها خيانة عظمى وحازمين أمام هذه الإشكالية وبلا تردد كما تفعل الصين وكما تفعل روسيا بلا لبس بتصنيفها «خيانة عظمى» فإن هذا الباب لن يغلق.

المفارقة أن هذا التيار اليساري الذي ينتمي له توم مالينوفسكي الراعي لهذا النوع من الاتصالات يتهم ترامب بالخيانة لأنه تواصل مع الروس وسمح لهم بالتدخل في الانتخابات بازدواجية مقيتة لا تتناسب مع شعاراته الحقوقية! علينا كدول عربية مستهدفة ألا نتردد في غلق باب شرعية التدخل الأجنبي دون النظر وراءنا واعتبار ذلك النوع من الاتصالات «خيانة عظمى» بلا مواربة إن كنا نعمل على الحفاظ على سيادتنا واستقلاليتنا واستقرارنا، فسيادتنا ليست أقل من سيادة الصينيين أو الروس.