في عدد من القطاعات التي عملت فيها خلال مسيرتي المهنية، بالأخص القطاعات الحكومية، أذكر أنني كنت أختلف بشدة مع عملية إسناد عمليات معينة لشركات استشارية أو تلك التي تقدم خدمات معينة في جوانب تخصصية، يفترض أن لها إدارات وأقسام متخصصة منشأة على هياكلها، فيها موظفون يشغلون المواقع فيها، بناء على تخصصاتهم.

خلافي لم يكن على أن هذه الشركات لا تقدم خدمات ممتازة، أو جيدة نوعاً ما، بل خلافي كان بشأن السبب الذي يدفعنا للبحث عن حلول أو معالجات لقطاعاتنا من الخارج، قبل البحث عنها في الداخل.

بدون ذكر أسماء هنا، أشير لحادثة حصلت في أحد قطاعات الدولة، ويومها كنت مستشاراً إعلامياً للوزير المسؤول عن القطاع، إذ كان هناك توجه لبدء حملة إعلامية بشأن موضوع معين، والقائمون على المشروع بحثوا عن شركة لتنفذ المشروع وكان مبلغ التكلفة يصل إلى 30 ألف دينار. أحسب للوزير آنذاك حسن إدارته للموضوع، فقال للمسؤولين عن المشروع اعرضوا الموضوع على مستشاري الإعلامي وانظروا ماذا يقول.

اجتمعوا معي واستعرضوا الموضوع، وبسبب خبرتي في المجال الإعلامي رأيت بأن اللجوء لشركة خارجية يدفع لها مبالغ بآلاف الدنانير لتنفيذ حملة إعلامية أمر فيه إعلان للعجز عن إدارة الحملة داخلياً. سألتهم أليست لديكم إدارة للإعلام؟! أليست لديكم أقسام بداخلها؟! أليس لديكم موظفين يفترض بأن تخصصاتهم كلها إعلامية؟! أجابوا بأن «نعم»، فقلت: لماذا إذن لشركة تقوم بعملهم؟!

أذكر أننا في خلال ربع ساعة فقط، خططنا للحملة، وكيف ستبدأ وكيف ستدار، وما هو دور الموظفين فيها، وما هي وسائل الإعلان عنها، وكيف أن لديك قنوات إعلامية رسمية متمثلة بالإذاعة والتلفزيون وتتبع وزارة الإعلام، وهي وزارة شقيقة لوزارتنا، ما يعني أن ما سنقوم به لن يكلفنا أية مبالغ، بل سيكون نتيجة تعاون بين الوزارتين. في جانب آخر لدينا صحافتنا المحلية التي سننشر فيها أخبار الحملة وتصريحات المسؤولين فيها، وسنترك للصحافة القيام بدورها في استطلاع رأي الناس، وقياس مدى تفاعلهم مع الموضوع، وإن كان من حاجة لإعلانات تسويقية، فإن المبلغ الذي سيستخدم أقل بكثير من المبلغ الذي سيسلم للشركة، والتي كانت ستطلب منا مبالغ إضافية لوضع إعلانات في الصحافة أيضاً!

عندما عرضت المعالجة لهذا الموضوع على الوزير، كان موقفه داعماً ومؤيداً، وقال بأن كلام المستشار الإعلامي عين الصواب، ونحن لدينا القدرة للقيام بهذه المسألة بأنفسنا، وموظفينا يفترض أنهم قادرون ومؤهلون لممارسة دورهم الوظيفي والنجاح فيه، وهذا ما كان.

ليست القصة للتباهي هنا، لكنني أوردها لأنها من قصص النجاح التي أفتخر فيها، والتي كان اللاعب الرئيس فيها يومها الوزير المنفتح في عمله، والذي يعطي أهل التخصص حقهم في إبداء الرأي والمشورة، بل ويمنحهم الثقة حتى ليختلفوا معه في الرأي، والأهم أنه يستمع لهم ويثق في قراراتهم احتراماً لخبرتهم وتخصصهم.

هذا مثال ناجح أجزم بأننا سنجد مثله في مواقع عديدة لدينا، فقط لو أبعدنا عنا الفكرة السائدة بأن المشاريع كلها يجب أن تسند لشركات خارجية حتى تنجح وحتى يخطط لها بشكل احترافي، وأبدلناها بالبحث أولاً فيما نمتلك من قدرات وطاقات وعقليات، باعتبار أنه من الاستحالة ألا يكون لدينا من موظفي الحكومة من يفوق في قدراته من يعملون في تلك الشركات.

أقول ذلك ولدي من الأمثلة الكثير، على شركات تعاملنا معها في قطاعات مختلفة، وانتهى الأمر بأن عملهم كله قائم على عمليات لا تنتهي يقوم بها موظفو القطاع نفسه، بالأخص عملية تجميع المعلومات وشرح طرائق العمل، وكأنك تجهز لهم «الطبخة» ويبقى عليهم تقديمها للمسؤول الأول أو الإدارة التنفيذية على طبق من فضة.

العنصر المؤثر في كل هذه المسائل، هو المسؤول أولاً وأخيراً، وهل هو مؤمن بقدرات موظفيه، أم لا؟! وهل هو يرى أن منح شركات مبالغ طائلة مقابل عمل يمكن أن يتم داخلياً دون تكلفة، أمر عادي أم لا؟!

أخيراً نقول وللأسف، مثلما لدينا «عقدة الأجنبي» طاغية في السابق، ومازالت بقاياها موجودة، لدينا «عقدة الشركات الاستشارية»، رغم أن البديل عنها موجود لدينا في الداخل وأمام عيوننا!