لا ينكر عاقل دور الغرب المهول في التقدم الذي تعيشه البشرية. فلولا الغرب وعلومه لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لكن تجارب الغرب وثوراته وتمرده على كيان الأسرة الذي كانت ومازالت العمود الأساسي للمجتمع أمر يجب الحذر منه كثيراً. فنحن هنا أنجح بمراحل -حتى وقت قريب - في حفاظنا على مؤسسة الزواج والأسرة ونتفوق عليهم في ذلك.

والجادون في الغرب من علماء وباحثين استشعروا خطورة تبعات تفكك الأسرة وبدؤوا منذ زمن نشر الدراسات التي تحاول معالجة الوضع هناك. حيث نشرت للباحثة في شؤون الأسرة والعلاقات في جامعة أدنبره «سمانثا كالان» دراسة تحث الدول على ضرورة تطبيق سياسات تحمي الأسرة من التفكك لأنها تؤكد أن النطاقين العام «المجتمع» والخاص «الأسرة» مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً، وهي تعزز ما ذكره أغلب علماء الاجتماع أن الأسرة هي أساس المجتمع. وتدعو الدراسة إلى ضرورة تحفيز ثقافة تكوين الأسرة والحفاظ عليها لأن نشأة الطفل في أسرة مترابطة ومتفاهمة ومتحابة تؤدي في المستقبل إلى مواطن قادر على العطاء والاندماج في محيطه الأكبر.

وقد جاءت هذه الدراسة بعد أن أثبتت كل الأرقام في الدول الغربية ارتفاع معدلات الطلاق بشكل غير مسبوق في الأربعين سنة الماضية -مثلاً ارتفعت نسبة الطلاق في إسبانيا إلى 296%ما بين 1996 و2006- بسبب التغيرات التي طرأت على أدوار الرجل والمرأة في الغرب خاصة بعد خروج المرأة للعمل.

ولا أستبعد أننا هنا في هذه المنطقة في صدد الدخول في معضلة شبيهة مع مرور الوقت فالملاحظ يرى أولاً عزوفاً عن الزواج من قبل الكثيرين من المؤهلين للارتباط الشرعي وثانياً سهولة وسرعة الطلاق وتفكك الأسرة.

وسأتوقف عند الملاحظة الثانية، التي أصبحت تؤرق من يتابعها. فبعد أن كنا مجتمعات لا يذكر فيها الطلاق إلا في أشد الحالات وأصعبها أصبحنا نشابه الغرب في سرعة الخروج من مؤسسة الزواج وتحطيم كيان الأسرة. فدور الرجل والمرأة في البيت لم يعد واضحاً كالسابق واختلطت المسؤوليات وزادت الأموال في يد المرأة التي أصبحت الآن هي من تبادر بطلب الطلاق في أغلب الأحيان.

الأمر خطير جداً، ويجب ألا نقف مكتوفي الأيدي لنسمح للطيش والتهور في موضوع الأسرة أن يؤثر على مستقبل مجتمعاتنا. فمع تقليدنا الأعمى للمظاهر الغربية ومن ضمنها حث المرأة المستميت لخروجها للعمل علينا ألا ننسى أن نحفز الرجال والنساء سوياً على الحفاظ على الأسرة وثباتها.

لا يفترض أن نترك دعوات الحرية الشخصية المطلقة وحرية الاختيار والإحساس بالسعادة الدائمة أن تطغى على ضرورة الاهتمام بمؤسسة الزواج ومسؤولياتها. لأن ما يأتينا الآن وبكثافة غير مسبوقة هو الحث على الخروج السريع من أي تجربة زواج طالما المرء لم يشعر بالسعادة، وكأن هذا الخيار هو الحل الأوحد.

والدور يقع على عدة أطراف لنشر ثقافة تحبب الناس في مشروع الأسرة وتبقيهم فيها دون اللجوء إلى الانفصال إلا لأسباب خارقة.

أولاً، أرى أنه من الضروري على الوعاظ ومن يقدمون النصيحة للناس أن يكثروا من الحديث عن الحلول لمشاكل الزواج وكيفية بناء الأسرة بأسلوب واقعي قريب من الناس. فالكل أعتقد يعلم أن أبغض الحلال عند الله الطلاق كما جاء في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ولكن نعلم أيضاً أن الكثير في هذا الزمن لا يسمع ولا يعتبر مع الأسف. لذلك أرى أن تحسين أسلوب التخاطب مع الناس وإضافة حلول قريبة من الواقع في هذا الشأن أمر بالغ الأهمية. وأحيي كلاً من الدكتور جاسم المطوع من الكويت والدكتور طارق الحبيب من السعودية على سعيهم الدؤوب لمناقشة مصاعب الزواج بأسلوب حديث ومشوق ومفهوم لكل الطبقات من الناس.

ثانياً، من الضروري أن يتجه الإعلام نحو تعزيز أهمية ترابط الأسرة بأسلوب محبب يراعي التطورات في تركيبة الأسر الحديثة وما يصاحبها من تحديات. وحبذا لو ابتعدنا عن مسلسلات التفكك الأسري والخيانات لفترة واستبدلناها بنماذج لأسر متحابة ومتفاهمة. وحبذا أيضاً أن نعيد التأكيد على أهمية دور المرأة في المنزل بعد أن قضينا سنوات نشجعها فقط على مطاردة أحلامها العلمية والوظيفية وألمحنا لها أن دورها في البيت أصبح لا يتعدى إدارة الخدامة والسائق.

ثالثاً، من المهم، زيادة جرعات التثقيف الأسري ودورات إصلاح الزواج على أن تتبنى إحدى الجهات الرسمية ذلك وبجدية تامة، فكلنا سمعنا وشهدنا طلاقات وهدماً لبيوت لأسباب بسيطة بالإمكان حلها بالحوار والنقاش.

رابعاً، أرى أن دور القضاة في المحاكم الشرعية محوري في حث المتخاصمين من الأزواج على إيجاد حلول لمشاكلهم بعيداً عن هدم كيان الأسرة -والحق يقال إن هذا ما يقوم به أغلب القضاة حالياً وهو جهد مبارك يشكرون عليه- لأنهم يعتبرون الخط الأخير لإنقاذ مؤسسة الزواج من الانهيار.

مع تفكك الأسرة يضيع الأبناء ويضعف المجتمع ويتأثر المستقبل سلباً، فما أحوجنا هذه الأيام إلى أجيال صالحة ومثابرة لتعبر بنا إلى الأمام.