تبدأ أحداث الفيلم الإيراني "قصص" للمخرجة رخشان بني اعتماد، برصد أحد المصورين مجموعة من الوجوه والحكايات، لتنتهي عند سائق تاكسي، يعمل في المساء، تاركاً ابنته عند والدته بحثاً عن لقمة العيش، وفي إحدى المحطات تركب معه فتاة شابة تحمل طفلاً مريضاً، وتطلب منه أن يذهب بها إلى أي مكان يريده. فهي تبيع نفسها من أجل تأمين لقمة عيشها مع طفلها.
وحينما يتأملها، يسرد لها حكاية فتاة عرفها هجرت أهلها، فتدرك أنه تعرف إلى هويتها وهو يروي لها ولنا حكاية امرأة غادرت أهلها إلى الشارع.
عبر ذلك المشهد القاسي، تتالى الحكايات فإذا بنا أمام حكايات مشبعة بالألم ثرية في رصد أشكال الحياة داخل المجتمع الإيراني. سبع شخصيات وسبع حكايات عامرة بالألم، تضج بالهذيان والانكسار، وإنما أيضاً بالتحدي لمواجهة الواقع.
رحلة تبدأ من الفتاة التي تبيع نفسها من أجل تأمين علاج ابنها المريض، إلى أخرى تلجأ إلى إحدى المصحات النفسية هرباً من جحيم زوجها الذي شوه وجهها بالماء الساخن، نتيجة الضغوط التي تحيط به، والهيمنة الذكورية الرعناء.
قصة تجر أخرى
وتتواصل القصص والحكايات الغارقة بالسوداوية مع حكاية عجوز متقاعدة تحاول البحث عن حقها في العيش الكريم، بعد المشاكل التي تتعرض لها مع زملائها في المصنع الذي تعمل به، مروراً بالموظف الرسمي الباحث عن تأمين الغطاء لتكاليف علاجه، بكرامة وإنسانية في واقع مشبع بالروتين.
وتمضي الحكاية، من خلال تلك الكاميرا وذلك المصور وأيضاً السيناريو الثري بالشخوص والحكايات والهموم الإنسانية، التي تذهب إلى السياسة دونما تصريح، وتخوض في الواقع بشفافية نادرة، من الصعوبة بمكان مشاهدتها في أي سينما أخرى غير الإيرانية، بفضل صناعها المبدعين، ومن المخرجين كعباس كيار وستامي وجعفر بناهي ومحسن مخملباف وغيرهم، وصولاً إلى رخشان بني اعتماد التي تأخذنا في جميع أعمالها إلى نقاط محورية، تعتمد الحكاية التي تعصف بشخوصها الظروف والواقع والألم، لكنها تظل تمتلك قدراً عالياً من المقاومة، ترفض السقوط، وتظل تمارس التحدي للتغيير.
اشتغال عالي المستوى على الشرائح والطبقات الاجتماعية السفلى من المجتمع الإيراني، لاسيما الفقراء والمحرومين والمهمشين، عبر نسيج من الحكايات المتداخلة، التي يجر بعضها الآخر، في اتساق فني صعب المنال، يعتمد لغة سينمائية عالية الجودة وحوار لا يكاد يتوفر إلا في نتاجات هذه السيدة التي نذرت نفسها للسينما وقضايا الإنسان في بلادها.
شديد الانتقاد والعتمة والألم
فيلم "قصص" لرخشان بني اعتماد، هو في حقيقة الأمر عمل شديد الانتقاد والعتمة والألم على السواء، يتجاوز في الكثير من مشاهده حدود المسموح والمباح في السينما الإيرانية في تجربة هي في حقيقة الأمر تجربة استثنائية لكنها ليست نادرة.
فقد عودتنا السينما الإيرانية عبر مبدعيها على نتاجات إبداعية عالية الجودة، تقدم لنا العمل السينمائي مقروناً بالقضية والموضوع الاجتماعي الناقد والمحلل والعميق.
وتلجأ رخشان في فيلمها إلى لغة هي في حقيقة الأمر صادمة قاسية حادة، لكنها بعيدة عن المباشرة حتى في المشهد الأخير، الذي يجمع بين شاب لم يكمل دراسته الجامعية، واضطر إلى العمل على باص صغير، نشاهده في المشهد الأخير وهو يتحدث مع الفتاة التي ينتظرها ويعشقها وهي تعمل كمتطوعة لمساعدة فتاة مريضة نتيجة مرض نقص المناعة، حوار عن الحب من دون التصريح بالحب، حوار يقول من خلاله الكثير. وتقول هي أكثر، ولكن لا تصريح حتى بالحب.
فأي حرفة وأي إبداع وأي انتقال إلى قيمة وفكر سينمائي هو في حقيقة الأمر إحدى مفردات التميز والتألق في السينما الإيرانية التي ترتكز على واقعها نقداً وتحليلاً.