المكان هو العمود الأساس في الرواية، وهو الدعامة التي ترتكز عليها باقي عناصر السرد الأدبي كالزمن والحدث والشخوص سواء أكانوا أساسيين أم ثانويين.

إن عرض المكان في الرواية إما أن يكون نتيجة تجربة حقيقية يعيشها الكاتب أو يعيشها من هم حوله بواقع حقيقي بكل تفاصيله، أو أن يكون من وحي خياله فحينها يمتلك كامل الحرية في التحرر من الواقع متجهاً نحو أفق التشويق والإبداع للقارئ ولكن شريطة ألا يشوه ملامح المكان الحقيقي.

الروائيون المبدعون يختارون أمكنتهم بوعي عميق، وهذا يسهم في إنتاج نص مغاير بعناصر متماسكة مرتبطة متفاعلة مع المكان ، إلى جانب أن المكان في الرواية أنواع، فإما أن يكون مكاناً حقيقياً أو مكاناً خيالياً وهما مختلفان تماماً عن بعضهما البعض، فالمكان الحقيقي الواقعي له علاقة بزمان حقيقي وبشخوص منبثقين من ذاكرة ومرجعية الكاتب الفكرية الحقيقية فيكون في بعض الأحيان المنتج الأدبي مفتقراً لعامل الإثارة والجمال الذي يتميز به المكان الخيالي الفني، إلى جانب أن المكان الخيالي يكون مكاناً متسماً بطبيعته المنفتحة التي تمنح الكاتب القدرة العالية على الخلق والإبداع وإثارة عامل التشويق عند القارئ المتذوق. والجدير بالذكر أن الروائي في أمكنته الخيالية أقدر على اختراق عالم الخيال والذي نراه أحياناً يحاكي الواقع بطريقة غير مباشرة ويقتبس منه بعض الحقائق المرتبطة، فحينها يأتي بقالب مختلف يتميز بالمواءمة بين الواقع المؤثر والمجاز والخيال بفضائه الرحب.

تعتبر المجموعة القصصية «حكايات كوليما» للكاتب الروسي «Varlam Shalamov» مجموعة قصصية رائعة اعتمد فيها على تجربته الشخصية من خلال مكوثه 17 عاماً في سجون ستالين الخانقة بسيبيريا جسّد فيها كل ما عاناه بصدق من جوع وبرد وتعسف جسدي ونفسي.

إذاً «المكان» في الرواية يعتبر مسرحاً للأحداث والحيز الذي يتحرك ويعيش فيه شخوص الرواية فتنشأ العلاقة المتبادلة بين المكان والشخوص فتُمنح الرواية خصوصيتها، وأن كل نص سردي ناجح له دلالاته المكانية وهي أول ما يشد القارئ للرواية.

على سبيل المثال إن الروائي المبدع يذكر الريف في روايته لتدور أحداثها فيها، وقد يشير إلى موقع هذا الريف، وطبيعة السكان فيه وعلاماته المكانية والجغرافية وهو بهذا كله يمهد مكانياً للإحداث، ومن ثم يذكر رمزا من رموز هذا الريف في روايته كمنزل الفتاة البطلة ابنة صاحب أكبر مزرعة ويربطها بأحداث وشخوص فحينها يرتكز في مخيلة القارئ بتسلسل هذا الحدث وجود بطل سيكون له دور وستقع في غرامه وحبه ابنة صاحب أكبر المزارع فمن هذا كله وتحديداً من المكان تكونت الرواية.

إن للمكان مظهرين؛ مظهر جغرافي مباشر ومظهر خلفي غير مباشر للمكان باستخدام أدوات لغوية ذات دلالات غير تقليدية مثل سافر، أبحر فيكون المكان حاضراً كالصدى.

عندما يقرأ القارئ الواعي النص السردي من منظور مكاني عليه ألا يقف عند المظهر الجغرافي والخلفي، ولكن يقرؤه ضمن هرمنيوطيقا وهو «علم تأويل النصوص» ليتسم بالانفتاح ويتعامل مع المكان ويتفاعل معه بشكل مختلف.

تمثل المكان في الرواية العربية في أربعة أشكال فإما أن يكون «وعاء « لأحداث وشخوص لمجتمع معين بعلاقاته الاجتماعية وفنونه المعمارية وبعصر معين كروايات نجيب محفوظ في ثلاثيته بين القصرين والسكرية وقصر الشوق وبروايته قشتمر وزقاق المدق وهي أسماء لأحياء شعبية تدور أحداث أبطالها فيها، وهناك المكان «المهيمن» فيصبح المكان هو المسيطر على حركة الأشخاص واتجاه الأحداث كأعمال الروائي الليبي إبراهيم الكوني وثلاثية عبد الرحمن منيف «مدن الملح»، والمكان «الإطار « حيث يتراجع المكان، ويكون على هامش النص، أي يكون إطاراً وحوافاً، فيكتفي السارد بذكر إشارات مكانية بسيطة، تجعل القارئ يدرك إطار الأحداث الدائرة، لأن صناعة الحدث هنا تتأتى من معطيات أخرى، مثل رواية العيب ورواية فيينا 1960»، ونيويورك 1980 ليوسف إدريس، وأخيراً المكان «المهمش» وفيه يكون حضور المكان شبه معدوم ويكون التركيز على الحدث أو الأبطال كرواية علاء الدين مصطفى «في عيون الآخرين».

إن للمكان ضرورة لا يختلف عليها اثنان في السرد الأدبي فعندما نقرأ لنجيب محفوظ أو الأسواني في رواياتهم نجد أنفسنا نقرأ الخارطة الجغرافية والمكانية لمصر فعرفنا أحياءها ومدنها وصعيدها من رواياتهم، وما نلاحظه في الخليج العربي أن رواد السرد جسدوا الأمكنة ولكن مع الوقت أصبحت البيئة الخليجية والأمكنة تتلاشى، بينما هي في الواقع بيئة خصبة وباستطاعة الروائي الخليجي استغلال تلك البيئة.

فأتمنى من جيل الشباب في الرواية الخليجية اقتباس أمكنتهم في رواياتهم من البيئة المحيطة وكتابة الجميل عن تلك الأمكنة في تلك الأزمنة ومزجها بخيالهم المنفتح.. فخليجنا بيئة خضراء لخيال المكان باختلاف الأزمنة.