هناك مقولات مأثورة منتشرة بقوة في أوساطنا، وبعض وسائل التواصل الاجتماعي تخصصت اليوم في نشر هذه الأقوال، وترويجها بطريقة توحي لك بأن ما يكتب هو «أسلوب الحياة المثالي» في التعامل مع الأمور، رغم أن الحياة بذاتها «نسبية» تتأثر بظروف ومتغيرات كلها تخضع لمفهوم «النسبية».

شيء واحد، أنت تراه جميلاً، وآخر يراه قبيحاً. من صاحب الرأي الصحيح، ومن صاحب الرأي الخاطئ؟! كلاهما صحيح وكلاهما خاطئ ربما، لأن المسألة خاضعة للنسبية.

من أكثر الأقوال المأثورة المنتشرة والتي أقف عند كثير منها متأملاً، وكثير منها رافضاً مضمونه، لأنه ليس هناك شيء مطلق بل «نسبي»، تلك الأقوال التي تتحدث عن «التسامح» من منطلق أنك حينما تتعرض للإساءة فإن أعلى مراتب القوة تتمثل بالتسامح والعفو عمن أساء إليك.

نعم، التسامح أمر إيجابي، هو يحقق لك راحة مع نفسك، ويزيح كماً كبيراً من الضغينة قد يثقل صدرك تجاه المسيء لك، لكنه أمر «نسبي» أيضاً، إذ بعض الحالات التسامح والعفو فيها يمكن أن يكونوا عاملين إيجابيين ولهما تأثيرات طيبة عليك، لكن بعض الحالات، وتحديداً في حق أناس لا يستحقون التسامح، فإنك تخطئ خطأً كبيراً بحق نفسك.

من يستحقون التسامح والعفو هم الذين ربما أخطؤوا بحقك عن غير قصد، ربما لسوء فهم، لكن المؤشرات التي تراها حينما تبحث في حالتهم تكشف لك أن فيهم «نبتة طيبة» بالداخل، وأنه يستحيل صدور هذه الإساءة عن قصد وعمد.

لكن النوع الأسوأ والذي يكون التسامح معهم أكبر خطأ يمكن أن تقع فيه، هم أصحاب الخصال الدنيئة، أصحـــــاب النفوس المريضة، من يريدون التطـــــاول على البشر والإساءة لهم، وإيذاءهم بشتى الوسائــــل، ثم يتصرفون بطريقة عادية، بل يتعاملون مع الآخرين الذين يخطئون بحقهم على أنهم من أخطؤوا بحقهم وليسوا هم. هذه نوعية من البشر التسامح معها ضرب من الغباء والتهور، لكن المسيئ والمخطئ عن عمد وتقصد، إن لم يردعه قانون أو رد حاسم، سيتمـــــادى وسيستمر بالتطاول وإيذاء الآخرين، هـــــؤلاء السكوت عنهم جريمة.

قد يقول قائل بأن ديننا دين تسامح وعفو، وأقول بأن هذا الكلام صحيح، لكن ديننا دين تشريع وقانون وإقامة حدود ورفض للمعاصي ومنها الكبائر التي من ضمنها إيذاء الآخرين والإساءة إليهم والتطاول، ديننا وعلى لسان نبينا ذكر العفو والمغفرة لكنه قرنها بشيء مهم جداً ألا وهي «المقدرة»، فقيل «العفو عند المقدرة»، بما معناه أنك أحياناً نظراً لحجم الإساءات والتطاول بحقك فإن «المقدرة» تزول، لأن الجرم المرتكب عظيم، بالتالي يكون الحساب والعقاب بالقانون هو الرادع لمثل هؤلاء الأشخاص.

مع احترامي لمن يتحدث عن «العفو» و«التسامح» بمفهوم قبول «التطاول والإساءة والاستهداف» من أشخاص منحدري الأخلاق وعديمي الوازع الأخلاقي، هذا حديث مبعثه «ضعف» و«قبول بالإساءة»، وليس التسامح الذي يجعلك كبيراً وقوياً.

القوة في العفو والتسامح، حينما تكون في موقف قوة، وحينما يكون القانون إلى جانبكم، والأهم حينما يأتيك المسيء طالباً للصفح والعفو مقراً بذنبه، معترفاً بخطئه، حينما يكون لك الخيار بالعفو عنه ومسامحته بعد إقراره بزلته وإثمه، أو رفضها وأخذ الحق بالقانون، هذا هو التسامح من منطلق قوة، والذي يكون بالفعل أعلى مراتب القوة.

قيل في المثل «القافلة تسير والكلاب تنبح»، لكنني أقول بأن بعض الكلاب يحتاج أن توقف القافلة لدقيقة واحدة، وتنزل منها وتلجمها حجراً حتى إن رأتك مرة أخرى تهرول بعيداً وتخرس عن نباحها.

قد يختلف كثيرون معي في الرأي، وأحترم ذلك، لكنني أذكرهم بواقعنا الحالي المعاش، وكم تغيرت الأخلاقيات فيه، وكم بتنا نصادف بشراً للأسف سيئي الصفات، بذيئي الخصال، يصلون حتى موقع قدمك ليسيؤوا إليك ويستهدفوك فقط لمجرد الإساءة.