تصدرت فنلندا للعام الثاني على التوالي قائمة الدول الأسعد في العالم في تقرير السعادة العالمي الذي تصدره شبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة بالشراكة مع مؤسسة إرنستو إيلي، ويصنف 156 دولة من حيث مدى سعادة مواطنيها بأنفسهم، ولا يقتصر تصدر فنلندا في سعادة شعبها فحسب، بل عادة ما نجدها أيضاً في رأس القوائم العالمية في التعليم والتنافسية الاقتصادية والشفافية والتقدم التكنولوجي والابتكار. فما سر تقدم فنلندا هذا الذي انعكس مباشرة على رفاهية عيش وسعادة شعبها؟

مثل البحرين، كان اقتصاد فنلندا يعتمد اعتماداً كبيراً على الموارد الطبيعية والتقنيات المستوردة. في الستينيات، كان حوالي ثلثي عائدات التصدير الفنلندية من أهم مواردها: الغابات والأخشاب. في عام 1993، واجهت فنلندا أشد أزمة اقتصادية منذ الثلاثينيات، حيث بلغت نسبة البطالة 20٪، وانخفض حجم الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 13%، وانهار القطاع المصرفي، وارتفعت مستويات الديون من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990 إلى 58% في عام 1994.

استجابت فنلندا لهذه الأزمة الوطنية بطريقة غير متوقعة، أولاً، كانت الاستثمارات موجهة بشكل كبير نحو الابتكار بدلاً من الترويج للأنشطة التقليدية.

ركزت فنلندا على التنويع نحو التكنولوجيا المتقدمة، بعيداً عن الأخشاب والصناعات التقليدية، فبدأت في تركيز الإنتاج والتصدير والبحث والتطوير على السلع والخدمات ذات الكثافة المعرفية، كما سارعت في خصخصة الشركات الحكومية والوكالات العامة، وقامت بتحرير الأسواق المالية والملكية الأجنبية.

وكان الهدف الرئيسي لجميع هذه السياسات هو تشجيع الابتكار في القطاع الخاص، حيث أدركت فنلندا أن الابتكار من قبل القطاع الخاص والتعاون المتبادل بين الجهات العامة والخاصة في البحث والتطوير أفضل من الاستثمار الحكومي المباشر في هذه المجالات.

أصبح بناء المعرفة وتطويرها المحرك الرئيسي لخروج فنلندا من الأزمة الاقتصادية، فزاد الإنفاق الإجمالي على البحث والتطوير حتى وصل إلى نحو 4 % من الناتج المحلي في نفس الوقت الذي كان فيه متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تتقلب بين 2.0% و 2.4%. كما زاد عدد العاملين في مجال المعرفة في القوى العاملة الفنلندية بشكل كبير، كان إجمالي القوى العاملة في مجال البحث والتطوير في عام 1991 بالضبط يساوي المتوسط في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبحلول عام 2014، ارتفع هذا العدد إلى ما يقارب ضعفي متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث وصل العدد إلى أكثر من 7000 باحث لكل مليون نسمة.

أدت زيادة الاستثمارات في الابتكار إلى سياسات تعليمية في التسعينيات ركزت على تحسين المعرفة والمهارات، إلى جانب الإبداع وحل المشكلات، فساهم التركيز القوي على الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا بشكل ملحوظ في نمو نوكيا كرائد عالمي في مجال الاتصالات المحمولة وشركات عديدة مثلها في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات،وترتبط العديد من الجامعات الفنلندية ارتباطًا وثيقًا بالبحث والتطوير في هذه الشركات.

تزامن نمو القطاع التعليمي الفنلندي مع تحول اقتصادي مثير للإعجاب من الاقتصاد الزراعي القائم على الإنتاج إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، فقد حولت فنلندا نفسها إلى دولة رفاهية حديثة تتمتع باقتصاد معرفة ديناميكي في وقت قصير نسبياً.

تمثل التجربة الفنلندية في التسعينيات أحد الأمثلة الموثقة التي توضح لنا كيف يكون التعليم والمعرفة القوى دافعة للنمو الاقتصادي.

التجربة الفنلندية توفر دروسا عديدة للبحرين، تُظهر تجربة فنلندا أن بلداً صغيراً يتمتع باقتصاد يعتمد على الموارد الطبيعية قادر على أن يصبح رائداً في مجال الابتكار والاقتصاد المعرفي في وقت قصير.

ما تتطلبه البحرين للتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة هو التركيز على بناء القدرات والمهارات والابتكارات كما فعلت فنلندا.

الظروف الاقتصادية تحتم علينا التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة، فالموارد النفطية أصبحت بالجهد كافية لتمويل النشاط الحكومي، والدين العام في البحرين وصل إلى حوالي 85% من الناتج المحلي. كما أن نموذج الاعتماد على الحكومة في خلق فرص العمل غير مستدام في ظل التغيرات الديموغرافية والنمو السكاني. فالتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة سيؤدي إلى زيادة النمو في الناتج المحلي واستقطاب رؤوس الأموال وتوفير فرص عمل جديدة.

وتدرك البحرين أنها لا يجب عليها انتظار أزمة اقتصادية لتقوم بالتغيير كما فعلت فنلندا. بل قامت البحرين بإطلاق رؤية 2030 التي تهدف إلى التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة في عام 2008 عندما كان اقتصاد البحرين في قمة ازدهاره. فتدرك البحرين أن الابتكار والتطور التكنولوجي هو الركيزة الأساسية التي يرتكز عليها النمو الاقتصادي المستدام.

ولكن كيفية الوصول إلى الاقتصاد المعرفي هو ما يمكن أن نتعلمه من فنلندا، فكما فعلت فنلندا يجب علينا أنا نركز على إنتاج وتطوير السلع والخدمات ذات الكثافة المعرفية، وهذا الهدف يمكن الوصول إليه عن طريق تطوير التعليم وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير وزيادة عدد الكوادر التي نعمل في مجال البحث والتطوير. الدور الرئيسي للحكومة يجب أن يكون في تطوير التعليم، فأحد أهم العوامل في تطور فنلندا هو نظامها التعليمي المميز والفريد من نوعه. فجميع الطلاب في فنلندا يلتحقون بالمدارس الحكومية المجانية ذات الجودة العالية، حيث لا توجد في فنلندا مدارس خاصة.

أما في مجال تطوير البحث العلمي والابتكار، فهذا لا يجب أن تقوم به الحكومة لوحدها بل يجب أن يكون هناك تعاون بين القطاع الخاص والجامعات والمؤسسات الحكومية، يكون دور الحكومة فيه فقط الإشراف والإرشاد، بينما يجب أن يقوم القطاع الخاص بالاستثمار في القطاعات القائمة على المعرفة، وزيادة الإنتاج من السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، كما يجب أن تقوم شراكات بحثية بين الجامعات والقطاع الخاص.

* محلل في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»