عند قراءتنا لرواية جيدة يتكلم بداخلنا شخص آخر وتصحو بِنَا عيون مختلفة نرى فيها ما لا نراه؟ حقائق خفية صامتة تكشف لنا أموراً ساكنة في القلب والعقل، وبمجرد قراءتها نرى أنفسنا نعيش زمنها ومكانها وأجواءها ومشاكلها وحلولها وحيثياتها، هكذا تكون الرواية الجيدة المؤثرة عندما تحوّلنا من وضع السكون الهادئ الى أشخاص يسعون يبحثون عن الحقائق والتفاصيل الظاهرة والخفية.

إن الرواية الجيدة بالرغم من فقراتها الصغيرة في الحجم إلا أنها قادرة على أن تسافر بِنَا نحو الشكوك والحلول لتنشر داخلنا بعد ذلك أفكاراً تسكننا بلطف وبلا استئذان فتؤثر في سلوكنا وفكرنا وتحول مشاعرنا من الغفوة والسبات إلى الإدراك والصحوة والوعي، فكيف لنا أن نقرأ رواية عميقة في تركيبها وتسلسلها وأحداثها دون أن تترك أثراً فينا؟!

«الأحزان والأمراض والتدهورات المالية والنفسية والحروب الفتّاكة المدمّرة لم تتوقف منذ قرون، فهل نستطيع مواجهة هذا العالم الذي أهدر غيرنا من الشعوب؟ فلا وقت لنا في المجابهة والمعارضة! علينا فقط أن ننتج بصمت لنصمد ونبقى إن كانت لدينا القدرة على الإنتاج مهما كانت الظروف قاسية مرّة»، هذا ما بيّنه الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف عندما كتب روايته غير التقليدية «سمرقند» وكأنه كان يطرّز سجادة شرقية ينسجها أناس لم يظهروا أبداً في الروايات السابقة بتلك التداخلات والامتزاجات الرائعة مثل شغف الصوفي بالحداثة والشعر بالفلسفة.

يأتي بعد ذلك طاهر بن جلون في رواية «تلك العتمة الباهرة» وهي من أدب السجون والتي فازت بجائزة إمباك الأدبية، ليبيّن المصير الحتمي للإنسان والذي يذهب به إلى القبر المحتوم، وكيف كان بن جلون بارعاً عندما جسّد لنا وضع البطل المسجون في حفرة يسكنها ثمانية عشر عاماً تحت الأرض لنعرف حينها معنى حقيقة التمسك والإيمان بالحياة وكم كانت التصورات في الرواية مؤثرة عندما صوّر البطل بأنه يلامس كل يوم ليل نهار رأس القبر ليخرج منه!

رواية نجيب محفوظ «عبث الأقدار» التي تمازجت فيها الأسطورة مع التاريخ وفيها سلّط الضوء محفوظ على علاقة الأسرة الفرعونية مع بعضها البعض في عهد الأسرة الرابعة من عصر الدولة القديمة عندما بُني الهرم الفرعوني «خوفو» وكيف قرر الملك خوفو هزيمة القدر والمكتوب وأن يضع النهاية كما يشاء وعدم الاستسلام، وكيف بيّن لنا ما يعتري الإنسان من الخوف والقلق مهما كان عالي الشأن والمقام، وكيف يخطط من أجل البقاء السرمدي وهو في نهاية الأمر يترك الحياة ويفنى مهما بلغت حياته جمالاً وراحة.

ثم تأتي أجمل تصورات الحرية والتسامح والاستسلام إلى المصير والذي لم نرسمه بأنفسنا في رواية الإيطالي إيتالو كالفينو «البارون المعلق»، فمن خلال قراءة تلك الرواية تسمو الأنفس بتصورات وخيالات الكاتب الذي رسم لنا بكلماته كيف تحافظ الأشجار على جمال جنانها عندما تعانق أغصانها وتحنو على أوراقها بحب أمام هؤلاء البشر الذين يعيشون الفوضى والدمار والقتل والتي جاءت مستوحاة من أفكار وهواجس واستخلاصات الكاتب ورؤيته للحياة وللتاريخ الأوروبي القريب والذي يعود إلى نهايات القرن 18.

ثم يأتي الكاتب الروسي دوستويفسكي في رواية «الأبله» ليبيّن قناعات أخرى «لا ثبات حولنا ولا دائم» في بطل أبله وأشبه أن يكون طفلاً يأتي ليحرك فينا أشياء لا تخطر على البال نحبو فيها بداخلنا وبذاتنا لإثبات أن «لا ثبات حولنا ولا دائم»، وما يحدث أيضاً في رواية «الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولمبي ماركيث ليثبت لنا أن الحب لذات الحب وليزرع بداخلنا الأمل والصبر والفرح، وكم كان مؤثراً حين يقول «علمته الشيء الوحيد الذي عليه أن يتعلمه عن الحب، وهو أن أحداً لا يستطيع تعليم الآخرين الحياة»!!

تلك هي الرواية الجيّدة نحفظ تفاصيلها ونعيشها وأحياناً نحزن عندما ننتهي من قراءتها، فهي تأتي لتغيّرنا، وتخترقنا بحب، وتلامس عقولنا ووجداننا، ثم تُدخلنا نوافذ الحياة التي لا نعرفها.. نوافذ تفتح العواطف والعقول لنختلف ونتفق بحب ولنتغير باقتناع ونتقبل واقعنا ونعيش مع الآخرين ونمضي بسلام وتسامح.