أذكر أنني في أحد محطاتي المهنية كنت أعمل بأحد القطاعات. حماسة الشباب كانت طاغية، والرغبة في الإنجاز كانت كبيرة، وعمليات التصحيح تستهويني، وغرامي كان ومازال يتمثل بالقتال لأجل ”إصلاح“ الأشياء المكسورة، أو تعديل عمليات العمل الخاطئة.

كنت مندفعاً جداً، أقوم مع فريق العمل الذي أتولى مسؤوليته بكل واجبات العمل على الوجه الأكمل، بل نزيد عليها بمبادرات وأفكار وابتكارات، كل هذا جعلنا نعمل بشكل دائم وبلا كلل أو ملل، كان يومنا مزدحماً، وكنا حتى في الإجازات الرسمية نعمل ولو بعيداً عن المكاتب.

دائماً تحركني القناعة التي تقول بأن الإنسان السوي هو الذي يعشق عمله ويتقنه، وهو الذي لا يتقاعس عن أداء دوره، فهو من خلاله يحقق ذاته، إضافة لكونه يخدم هدفاً أسمى وأكبر، يتمثل بوضع لبنات بناء في بنيان هذا الوطن.

وسط معمعة العمل اليومية جاءني مبتسماً واحد ممن يشغلون منصباً قيادياً يوازي منصبي، وبدأ هذا الحوار التالي:

يا صاحبي أراك منذ فترة، وأتابع عملك، ما شاء الله تقومون بجهد كبير جداً، وأنتم كخلية نحل لا تهدأ. لكن دعني أسألك وأجبني بصراحة، كم مرة وصلتك من المسؤول الكبير ملاحظات، وبعض اللوم والعتاب على أمور يراها هو بمنظور مختلف عنك؟! وكم مرة تُعطى لكم المشاريع التي لا تتوقف، والأفكار الجديدة، والتي عليكم إنجازها، وبعضها لا يتعلق بعمل قطاعكم، لكنها توكل لكم لأنكم مميزون في عملكم؟!

استغربت من السؤال لكنني أجبت: نعم تأتينا ملاحظات، وأيضاً توكل لدينا مهمات يفترض بغيرنا تنفيذها، لكنني أراها ثقة من قبل الإدارة العليا، فماذا تقصد هنا بسؤاليك؟!

ضحك وقال: أنا وأنت في نفس المرتبة، أي نتقاضى نفس الراتب، لكنك وفريقك تعملون أضعافاً مضاعفة، وفي الوقت نفسه حينما تريد الخروج في إجازة فإنك لربما تعاني للحصول على الموافقة لأن الإدارة تحتاج جهودك، بينما أنا أحصل عليها في أي وقت أشاء، إضافة إلا أنني لا أتحصل على ملاحظات وتوجيهات بقدر ما تحصل عليها. وفوق ذلك، فإنك تمتلك رأياً في بعض الأمور، ولذلك قد تختلف وجهات نظرك مع المسؤول وتدخل في نقاش لإقناعه، بينما أنا لا أعاني من وجع الرأس بسبب ذلك.

قطبت حاجبيّ وقلت: مع شديد احترامي لك، ورغم كرهي لعمليات المقارنة في مواقع العمل، لقناعتي بأن الاختصاصات تختلف، وأن كل شخص يعمل من منطلق مبادئه وثوابته في العمل، لكن لا وجه مقارنة بين عملكم ومستوى اهتمامكم، بحجم عملنا ومستوى اهتمامنا الكبير الذي يتضح للجميع، ونعم، قد يكون تحصلك على الإجازة أسهل وذلك لأن فعاليتك والاحتياج لك أقل، ونعم، قد تصلك ملاحظات أقل، لأن من لا يعمل لا توجد بجعبته أمور تستدعي المتابعة والتوجيه.

ضحك وقال: نعم، لا أحد ينكر ذلك، لكنني أذكرك بأننا سيان في مواقعنا ورواتبنا، وحينما تأتي ترقياتنا سنحصل عليها بحسب النظام، ما أريد إيصاله لك بأن تتعب نفسك، وتضغط على أعصابك، وتبذل مجهوداً في العمل، بل وتبتكر مهام جديدة ومبادرات غير مسبوقة، وأيضاً تتضايق وتتعب نفسياً لو سارت الأمور بشكل يعيقك، سواء أكان ذلك راجعاً لبيروقراطية إدارية، أو لقرارات عليا لها مراميها. باختصار يا صاحبي أنا ”أربط الحمار، في المكان الذي يريد صاحبه ربطه“!

أجبت بغضب: أبداً لا أتفق مع هذا الطرح، نعم هناك من يعمل ويجتهد، وهناك من يجلس مرتاحاً لا يفعل شيئاً، لكن هذا الأمر مرتبط بقناعات الإنسان، ومتعلق بمبادئه، ونظرته لشخصه من منطلق احترامه لذاته، وإيمانه بأن عليه دوراً يؤديه لخدمة قطاعه ووطنه.

لوح بيده وهو يضحك مبتعداً: واصل فيما تفعله، واجهد نفسك، واحرق أعصابك، أما أنا فسأظل أربط الحمار في المكان الذي يريدون ربطه!

هذه القصة قد تجدونها في كثير من الأماكن، قد تجدون أشخاصاً مجتهدين يقابلهم أشخاص ”غير مرئيين“ لأنهم لا يعملون شيئاً، والنوع الأول قد يكون الضوء مسلطاً عليه بسلبيات ذلك وإيجابياته لأنه يعمل، أما النوع الثاني فقد يكون أكثر راحة لأنه لا يرهق نفسه، فهو لا مبال، غير مبادر، ولا يهمه إن رأى الخطأ ولم يصححه.

من المخطئ ومن المصيب هنا؟! الإجابة واضحة للأسوياء، فالعمل عبادة، ومتى ما كنت مخلصاً في عملك، كنت مخلصاً لمبادئك ولموقع عملك. وهنا تكون العملية كلها مرهونة بأصحاب القرار وشاغلي المناصب القيادية العليا، إذ هم من تقع عليهم مسؤولية كشف الغث من السمين، هم من عليهم مسؤولية تقييم عمل الأفراد، ومن يستحق التقدير ومن يستوجب تقويمه ومحاسبته على إهماله.

ضاعت كثير من القطاعات وتأخرت في أعمالها وإنجازاتها بسبب ووجود كثير من هؤلاء السلبيين ”المرتاحين“ والذين يتمثلون بمعادلة ”ربط الحمار“، حتى لو كان ربطه في مكان يؤدي لكارثة.

ملاحظة: جميع الأحداث الواردة أعلاه ”خيالية“ ولا تمتّ للواقع بصلة!