اقترن ظهور مفهوم المواطنة بظهور مفهوم الدولة المدنية، ككيان سياسي يحكمه الدستور والقوانين لتنظيم العلاقات بين مؤسسات الدولة والفرد ومبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ولإعطاء كل ذي حق حقه؛ لذلك لم تعد المواطنة تعني ذلك المفهوم التقليدي الذي ينحصر في مفهوم الواجبات والحقوق التي تسند للمواطن وما يصاحبة من شعور بالإنتماء الوطني لديه و الولاء للوطن إنما المواطنة هي أشمل من كل ذلك فهي كالعقد الاجتماعي الذي قال به عالم الاجتماع الفرنسي « جان جاك روسو» في كتابه «العقد الاجتماعي» والذي أخذت منه معظم الدول الغربية دساتيرها الحديثة الذي ينظر للمواطنة كعقد إجتماعي بين طرفين وهما الفرد والدولة ولكل منهما حقوق والتزامات وعليه واجبات يجب أن يؤديها كل طرف للآخر.

من هذا المنطلق تفرض المواطنة المسؤولية الجماعية وذلك للحفاظ على مكتسبات الوطن ومقدراته وعلى أمنه الوطني واستقراره من أجل النهوض به والدفاع عن هويته الثقافية وبذلك هي تتطلب قيم التضحية والفداء لردع كل محاولات تفكيك المجتمع وانقسامه، ولذلك يجب الاهتمام بالتواصل وبناء العلاقات التي لا تقصى ولا تهمش أي فرد أو فئة في المجتمع، بل تعمل على تكريس القيم التي تتطلبها المواطنة وهي قيم الوحده الوطنية والتسامح والعدالة الإجتماعية وأدماج الفرد في الجماعة والمساواه والحرية والمسؤولية عند الجميع.

لذلك يكون لمفهوم المواطنة في الدول الديمقراطية أهمية أكبر، لأنها بمثابة القاعدة التي يبني عليها ما للمواطن من حقوق وما تفرض عليه من واجبات أكثر، حيث من الحقوق حق الفرد في التعبيرعن الرأي والانتخاب والعدالة والمساواة وتشكيل النقابات والمشاركة في اتخاذ القرار، وذلك من خلال المؤسسات الديمقراطية وعدم احتكاره في يد فئة ما من المجتمع انطلاقاً من قاعدة مبدأ المشاركة الاجتماعية، وأنه لا أحد فوق القانون فالوطن للجميع.

لم يعد مفهوم المواطنة بذلك المفهوم الاستاتيكي إنما هو مفهوم ديناميكي تطور بتطور المجتمعات الإنسانية، فلم يعد مفهوم المواطنة منحصرا متوقفا عند ذلك، حيث استجدت متغيرات عميقة في العالم أهمها الثورة المعلوماتية التي حتمت تشابك مصالح الدول فيما بينها وظهر ما يسمى بمفهوم «المواطنة العالمية» التي لا تلقي مفهوم الدولة القومية. وهناك تفسيرات متعددة لمصطلح «المواطنة العالمية»، والمفهوم الشائع هو أن «المواطنة العالمية» شعور بالانتماء إلى مجتمع أوسع يتخطى الحدود الوطنية، شعور يُبرز القاسم المشترك بين البشر ويتغذى من أوجه الترابط بين المستويين المحلي والعالمي والمستويين الوطني والدولي.

ولذا تولدت مفاهيم جديدة في العالم مثل مفهوم العدل والتسامح الديني بين الشعوب وخاصة عندما ظهرت أخطار تهدد الأمن والسلم الدوليين، وهي الإرهاب الذي أصبح ظاهرة عالمية حتم تطوير مفهوم المواطنة وهو «المواطنة العالمية»، حيث لا تستطيع أي دولة الآن أن تنأى بنفسها عن العالم «فما يحدث في بيت جارك قد يحدث في بيتك»، ولذا وجب علينا أن نكون على وعي بهذه الحقيقة، وأن نشرع في تكريس مفهوم «المواطنة العالمية « بين أفراد المجتمع وعليه عقدت المؤتمرات العالمية والندوات، ومن أهم هذه المؤتمرات على الأراضي الانجليزية وفي الأول من مايو2019م، كان موعد مؤسسة «أونيكس» لعقد مؤتمرها الدولي الثاني في مقاطعة «ويلز» وتحديداً في مدينة «نيوبورت». وقد جاء تحت عنوان «مؤتمر ويلز للحوار الديني»، والذي ناقش العديد من القضايا المتعلقة بالمواطنة وعلاقتها بالدين، وكذا سبل تعزيز هذا المفهوم التقدمي لدى أتباع الأديان الإبراهيمية في بداية الأمر، ومن دون أن يعني ذلك إغفال المعتقدات أو الشرائع الوضعية الأخرى.

يلفت النظر بداية أن هناك ذكاءً اجتماعيا وإنسانيا وحواريا في اختيار مقاطعة ويلز البريطانية مقراً لعقد فعاليات المؤتمر، فالإحصائيات تشير إلى تلك الرقعة الجغرافية، تمثل بوتقة انصهار للعديد من المهاجرين الآتين صوبها من كافة بقاع وأصقاع العالم، فعلى أراضيها يعيش نحو مليون مسيحي، ومثلهم من اللادينيين، عطفاً على مليون آخرين من اتباع ديانات مختلفة كالإسلام واليهودية، بجانب الهندوس والسيخ والبهائيين وغيرهم.

بنود إعلان المواطنة الذي خرج عن مؤتمر «ويلز» بكامل حروفه ودلالاته، كثيرة، ويمكن أن نشير إلى أنه تناول جذوراً تؤسس لحياة المواطنة عند كافة أتباع الأديان والمعتقدات، تلك التي لديها اهتمام جذري بالمجتمع من خلال العناية بالأسرة وسلامتها، وتحقيق السعادة لأفرادها، نظراً لما تتضمنه هذه الديانات من قيم وأخلاق مشتركة، تم اختبار ثباتها عبر التاريخ.

المواطنة في البحرين .. في الجزء الثاني من المقال.