خلال العشر سنوات الماضية وبالتحديد منذ اندلاع الأزمة المالية الأخيرة بين عام 2007 -2008 شهد العالم تطورات كبيرة غير متوقعة في الممارسات الاقتصادية والمالية والمصرفية والتي لاتزال آثارها ظاهرة حتى الآن. إن هذه التطورات قد أدت إلى تحول كبير في نهج كل من السياسة المالية والنقدية كما إنها أدت إلى إثارة تساؤلات هامة حول صلاحية النظريات الاقتصادية المتعارف عليها حتى وقتنا الحاضر.

فعلى صعيد السياسة المالية فقد اضطرت كثير من الدول المعنية والمتأثرة بالأزمة المالية إلى إنفاق مبالغ طائلة لإنقاذ مؤسساتها المالية والمصرفية، الأمر الذي أدى إلى اللجوء للاقتراض وبالتالي ارتفاع مستوى الدين لديها إلى حدود غير مسبوقة وغير مستدامة. والمفارقة الكبيرة أنه وبعكس المتوقع حيث إن ارتفاع مديونية الدول كان من المفترض أن يترتب عليه ارتفاع تكاليف الاقتراض ممثلاً في ارتفاع أسعار الفائدة، إلا أن الحاصل هو أن أسعار الفائدة ظلت في مستويات متدنية وتتجه حسبما يبدو إلى مزيد من الانخفاض.

أما على صعيد السياسة النقدية فقد انتهجت البنوك المركزية سياسات غير معتادة وغير مألوفة، حيث باشرت في شراء السندات الحكومية، وإن كان بشكل غير مباشر من خلال ما يعرف بسياسة التيسير الكمي، وذلك محاولة لضخ مزيد من السيولة لمعالجة ما ترتب على الأزمة المالية من ركود وانخفاض في معدلات النمو الاقتصادي، إلا أن سياسة التيسير الكمي وإن ساعدت في تجنب مزيد من التدهور الاقتصادي، إلا أنه كان لها آثار جانبية سلبية إضافة إلى أنها لم تحقق حتى الآن الهدف المنشود. إن سياسة التيسير الكمي قد أدت على النقيض إلى ارتفاع كبير في السيولة الأمر الذي رفع من مستوى المضاربات خاصة في الأسواق المالية، وزاد من نزعة الأفراد والمؤسسات إلى الأنشطة الأكثر مخاطرة. من جانب آخر فأن سياسة التيسير الكمي المتبعة من قبل البنوك المركزية الهامة أفقدت هذه البنوك الاستقلالية التي تمتعت بها طوال فترة ليست قصيرة من الزمن حيث إن التيسير الكمي يتضمن شراء سندات حكومية، وإن كان شراء غير مباشر إلا أنه يعتبر تمويلاً لعجوزات موازنات الدول المعنية الأمر الذي يتنافى مع مبدأ استقلالية البنوك المركزية حيث بهذه السياسات لم تعد البنوك المركزية تمارس السياسات النقدية فقط، ولكن أيضاً السياسات المالية.

بالتأكيد أن سياسة التيسير الكمي أدت إلى توفر كميات كبيرة من السيولة، حيث كان يعتقد بأن ذلك من شأنه تحسين وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، إلا أنه مع ذلك فأن معدلات النمو الاقتصادي ظلت حتى الآن متدنية إن لم تكن منخفضة إلى حد كبير. إن التخوف الكبير يتمثل في كون كل من السياسة النقدية ممثلة في البنوك المركزية والسياسة المالية ممثلة في ميزانية الدول التي كثير منها يعاني من عجز كبير، ومن ارتفاع غير مسبوق في المديونية، قد وصلت إلى الحد الذي استنفذت فيه كل الوسائل المتاحة لمحاولة العمل على إنعاش الأوضاع الاقتصادية، الأمر الذي يثير التساؤل حول ما يمكن أن تقوم به هذه السياسات في حالة نشوب أزمات مالية جديدة أو حتى استمرار ضعف مستوى النمو الاقتصادي الحالي.

هناك حسبما يبدو مفارقات أخرى كثيرة ظهرت مؤخراً في الممارسات الاقتصادية تضعف من مصداقية النظريات الاقتصادية الدارجة والمتعارف عليها منذ فترة طويلة من الزمن. فمن المتعارف عليه وفقاً للنظرية الاقتصادية أنه كلما قل مستوى البطالة زاد من الضغط، والطلب على الأيدى العاملة الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأجور وبالتالي ارتفاع التكاليف، مما ينعكس على مستوى التضخم إلا أن المفارقة هو أنه في الوقت الذي تقل فيه مستويات البطالة يظل مستوى التضخم منخفضاً بعكس المتوقع.

وبالتالي ووفقاً لما أوردناه من مفارقات فإن النظريات الاقتصادية حسبما يبدو لم يعد في إمكانها تفسير الواقع والممارسات الاقتصادية الحالية، لذا فإن المدارس والنظريات الاقتصادية أصبحت اليوم موضع تساؤل، وقد تحتاج إلى شيئ من المراجعة إن لم يكن إعادة نظر.

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي