الوضع يبدو هادئاً.. وبعض السحب المتفرقة في السماء.. وأشعة الشمس الحارة توحي بجو حار.. والجميع منشغل بالعبادة والطاعة.. وفجأة.. يتساقط بعض رذاذ المطر.. يخرج الجميع من خيمته ليستقبل القبلة ويواصل الدعاء في يوم من أعظم أيام السنة.. ويتبارك بقطرات الماء من السماء.. فجأة.. يتبدل كل شيء.. تهب رياح شديدة تهز خيام أرض عرفة.. يزداد المطر شيئاً فشيئاً.. يتوالى صوت الرعد.. يرفع الجميع أكف الضراعة للسماء.. ويحتمي الحجاج بالمظلة الشمسية التي جلبوها للاحتماء من أشعة الشمس الحارقة.. ويسارع الجميع إلى داخل الخيمة ليواصلوا الدعاء.. هكذا كان يوم عرفة لهذا العام.. من أجمل الأيام وأروعها وأحلاها.. لم يمر علينا في السنوات الماضية كمثل هذا اليوم.. عجيب في كل نواحيه.. أجواء روحانية جميلة في مكان جميل يتنزل فيه المولى الكريم إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله سبحانه وتعالى.. مازالت صورة هذا اليوم في مخيلتي.. ومازال بكاء الحجيج المتواصل يزداد بعد تغير الأجواء يرن في مسمعي.. وتذكر الجميع لأهوال يوم القيامة.. يسبح الرعد بحمده في يوم عرفة.. وتتزين السماء لمالك الملوك الذي ينزل في هذا اليوم.. ويتساقط المطر ليروي ظمأ ذلك الحاج الفقير المسكين الذي أتى من بعيد يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويسأله المغفرة والعتق من النار.. أذكر ذلك الحاج الذي خرج من خيمته رافعاً يديه إلى السماء يلهج بلسانه يا رب.. غوثك ورحمتك بعبدك الضعيف.. ظل على حاله فترة من الوقت حتى مع شدة المطر.. لم يتحرك من مكانه.. تذكر ما رواه الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلـم مطر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلـم فحسر «أي كشف» ثوبه حتى أصابه. فقيل: يا رسول الله: لم صنعت هذا؟ قال: «إنه حديث عهد بربه». ثم خر الحاج ساجداً يبكي.. ويتذلل بين يدي الله عز وجل ويسأله الحاجات.. في لحظات لا تتكرر كثيراً في حياته..

بالفعل لم يكن يوم عرفة هذا العام يوماً عادياً، بل كان استثنائياً بكل المقاييس، يتذكر فيه المرء قول الله عز وجل: «يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار..». ويتذكر حاله في ذلك الوقت فيخاف من مصيره ويتذلل ويسأل الله أن يكشف عنه كل ما يضير حياته، وينقله إلى أحسن الأحوال.. يوم عرفة هذا العام سيكون يوماً مميزاً في حياة كل من حج هذا العام، وظل يدعو ويدعو حتى غربت شمس يوم عرفة.. حتى أولئك الذين كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في يوم عرفة.. تنفسوا الصعداء عندما تغير الحال.. وباتوا يتنسمون نسمات الخير ويتباركون بقطرات السماء ويدعون الله أن يثبتهم على طريق الخير ويحسن خاتمتهم.. وما أجملها حينها من خاتمة..

الأمر الآخر الملفت للنظر أن تسبيح الرعد في هذا اليوم لم يتوقف عندما تساقط المطر إجلالاً وتعظيماً للملك الديان في يوم عظيم، «سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته». إنها أصوات تسبيح.. وليست أصوات خوف ووجل.. هذا ما رددناه بين الحجاج.. فمنهم من خاف.. ولم الخوف.. فهو في أرض مباركة وفي يوم مبارك من أعظم الأيام وأبركها.. هكذا هو الكون كله.. يسبح الله تعالى ويمجده..

أما تغير الأحوال.. فهو صورة أخرى من صور يوم عرفة.. فالله تعالى بيده مقادير الأمور، وأمره بين الكاف والنون إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.. ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.. فلا فرق بين صيف وشتاء.. فهو عز وجل يبدل الحال بمشيئته وإرادته.. وهكذا هو يوم عرفة في كل عام تكون فيه الأجواء جميلة.. وبخاصة هذا العام.. وليس كما يعتقد البعض «تحج في أغسطس! الله يكون في عونك».. إنها طاعة الله عز وجل وتلبية لندائه التي لا تقف مع ظروف الزمان.. فهو القادر أن يلطف بعباده ويبرد عليهم في يوم جميل لا يعرف قدره إلا من عاش أوقاته ولحظاته لحظة بلحظة.. مكان يجعلك تشعر أنك مقصر في جنب الله تعالى وإن بذلت وبذلت.. مكان تشعر أنك بحاجة إلى رحمة الله تعالى حتى تنجيك من أحوال الدنيا، وتربطك بالله سبحانه وتعالى..

إنه اليقين والثقة بالله تعالى أن تكون بقربه وتثق بمعيته وعونه لك على العبادة والطاعة وتحمل المشقة في سبيل تلبية نداء الله تعالى في أيام الحج.. متعة الحجة تجعل الحاج ينسى كل تعب، ويتحمل كل جهد في سبيل إرضاء الله سبحانه وتعالى، وفي سبيل تكثير الحسنات والظفر برحمة الله تعالى والخروج من ذنوبه كما ولدته أمه.. هكذا كان الحاج في يوم عرفة.. ينظر إلى مكانته في الجنة ويسأل الله تعالى أن يثبته على طريق الاستقامة ويحسن خاتمته ويبدل أحوال حياته إلى أحسن حال، وأن يرزقه لذة النظر إلى وجهه الكريم، وأن يثبته يوم تزل الأقدام وتبدل الأحوال، وأن يذكره بالنطق بالشهادة إذا دنا الرحيل ووجب التحويل وارتفع الأنين ضاق النفس.. إنها أوضاع عاشها الحاج وتذكرها في يوم عرفة.. وتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلـم: « إذا كان يوم عرفة فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم. وقال عليه الصلاة والسلام: «فما من يوم أكثر عتيقاً من يوم عرفة».

ومن رحمة الله عز وجل بحجاجه أن سخر لهم هذه الظروف حتى يزداد قربهم منه، وتتغير نظراتهم للحياة، وتتربى نفوسهم على حب الخير وتحمل الشدائد وتذكر أهوال يوم القيامة التي تطهر المرء من كل أدناس الحياة..

ثم ينفر الحاج إلى مزدلفة في وضع مهيب تقشعر منه الأبدان.. وتنظر يمنة ويسرة فلا ترى إلا أولئك الحجيج الذين قطعوا المسافات مشياً على الأقدام ليلبوا نداء الكريم سبحانه وتعالى.. فتتأمل في مزدلفة الحال.. وتشكر الله عز وجل أن وفقك لإدراك يوم عرفة.. وبخاصة عرفة لهذا العام.. وتذكر الله تعالى وتحمده أن اصطفاك من خلقه في مثل هذه الأيام الجميلة..

* ومضة أمل:

أيها الحاج تذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلـم: «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».