^  إن العجز عن فرز البُعد السياسي، بصفته مكوّناً أساسياً للأزمة المحلية الراهنة، وتمييزه بوضوح عن الثوب الطائفي الذي تم إلباسه عنوةً للأزمة، يشكِّل، في رأيي، السبب الذي يدفع البعض إلى تفسير الأحداث بمنطق “نحنُ على حق” وهُم على باطل”، وليس للمرء أن يختار بين أن يكون (معنا أو ضدنا)، فالحق معنا لوحدنا، ومن ليس معنا فهو ليس مع الحق! هذا، للأسف الشديد، هو المنطق الذي لم يعد يسود في أوساط عامة الناس فحسب، بل بات يتغلغل أيضاً في أوساط المثقفين، وحتى بعض الليبراليين والعلمانيين الذين استقووا بمنطق الطائفة لتبرير مواقفهم الانتهازية، وصاروا يوهمون الآخرين بأنهم يمسكون العصا من منتصفها، كما يُقال، حتى يبعدوا شبهة الطائفية عنهم، ويلصقوها بالآخرين متى ما دعت الحاجة لذلك. إننا نعيش في زمنٍ العجائب والغرائب، فإلى عهدٍ قريبٍ كان موقف الليبراليين والعلمانيين من الأوضاع القائمة واضحاً وصريحاً، ويتماهى في جوهره مع الرأي القائل بضرورة العمل على توحيد الصف الوطني، ونبذ التعصّب الفئوي، والنأي بالوطن عن الخلافات المذهبية الضيّقة التي تفتح باب الفتنة والشقاق بين أفراد المجتمع، لكن “الفزعة الخارجية”، إن صح التعبير، باتت تدغدغ المشاعر بضرورة “حسم الموقف” لصالح الطائفة، وهذا ما تم بالفعل، حيث أضحى السباق على “خطب ود” أبناء المذهب، وتحشيدهم ضد المختلفين معهم من أبناء المذهب الآخر هو ديدن البعض في التعاطي مع الأوضاع الراهنة، والعمل على إبقاء الفتيل مشتعلاً، بدلاً من السعي لرأب الصدع الذي أفرزته الأحداث السياسية المؤلمة، والتفكير من منظور مصلحة الوطن الأكبر، وذلك بالبحث عن المشتركات التي توحِّد أبناء الوطن، وتحقِّق أحلامهم. إن المطالب المرفوعة بتعزيز التجربة الديمقراطية، وإثرائها من مخزون التجارب العالمية المتقدمة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والقضاء على المحسوبية والفساد، وتلبية احتياجات المواطنين التعليمية والصحية والإسكانية، وإشراكهم في صنع القرار السياسي من خلال الهيئات التشريعية الممثلة لهم، إن مجمل هذه المطالب سياسية بامتياز، ومحاولة تصوير الموقف بأن طائفةً محدّدةً ترفع هذه المطالب فيما تتقاعس عنها طائفة أخرى، يضرّ بمصلحة البلاد والعباد!