جعفر الديري

يؤمن شعراؤنا الشباب، بمقدرة الشعر على التغيير، لكنه تغيير محدود، فهو لا يستطيع أن يوقف دبابة أو يمنع حرباً مثلاً. وإذا كان بالأمس ديواناً وصوتاً للجماعة، فقد تراجع اليوم للخلف بفعل أسباب وعوامل شتى أبرزها منافسة الرواية. إلا أن ذلك ليس شأن الشعر وحده، فإن الأدب ككل توقف عن تغيير الأشياء منذ زمن بعيد.

يقول محمد رضي: لقد توقف الأدب ككل وليس الشعر وحده عن تغيير الأشياء منذ زمن بعيد، فالشعر لا يستطيع أن يوقف دبابة أو يمنع حرباً مثلاً. وإذا كانت الجنائز والمآسي بالأمس ذريعة لكتابة قصيدة ما، فإنها لن تشعل حربا في الزمن الحالي على الأقل.

لماذا إذن نلجأ للأدب؟ لأنه باستطاعتنا عن طريقه خلق عالمنا المجازي الخاص. خلق العالم الذي نرغب فيه دون قيود. يمكننا حتى أن نجعل الناس تطير، أو نغلب فيه القلة على الكثرة. قتل الجميع أو إحياء الجميع، دون قدرة أحد على الاعتراض. أنت تخلق هذا العالم وأنت تتسيده. لكن الحقيقة الذي أعرفها ونعرفها جميعا أنه لن يؤدي الى تغيير عظيم في الواقع.

وهذا العالم لا يمكن خلقه دون قراءة. فالقراءة بنزين الكاتب. ولا يمكن أن نكتب دون قراءة، أو نكتب أكثر مما نقرأ وإلا بدى الضعف جلياً في المحتوى الذي نقدمه. إن القراءة هي الملهم وهي المعلم وهي السبب الرئيس في تطوير التجربة أو توقفها. كذلك نحن لا نختار جنس القصيدة عندما نكتب، لا أقول على سبيل المثال: "سأكتب قصيدة حداثية الآن"، ليبدأ القلم بالطاعة، فالأمر لا يسير بهذه الطريقة بالتأكيد، كذلك لا نختار نوعنا الأدبي، أحيانا تتكون التعابير داخلنا في صورة قصيدة ومرة في صورة قصة قصيرة ومرة تكون من الاتساع بحيث تتحول إلى رواية. أنت تتخذ قرار الكتابة، وهناك في الدماغ منطقة تتخذ قرار إبرازها على الورق.

تجديد للحياة

إيمان سوار تصف الشعر بالجريمة التي على القراء أن يتقبلوها كل بطريقته. ورغم ذلك تجد جدوى منها، "ربما ابتسامة أو مصافحة روح، وهو بمثابة تغيير داخلي يجدد حياة الفرد. فالشعر يحمل عدة قضايا، ويساهم في فهم الوجود بنظرة شعرية تحتمل التأويل والمفارقة".

علاقة سوار بالشعر متحررة، حاضرة طوال الوقت، فهي حرة في القراءة وحازمة في الكتابة، تحرص حين تكتب على تفادي الوقوع في المستهلك المكرر، فالشعر كما ترى مسؤولية، خصوصاً وهو في عالم اليوم الافتراضي، بعد أن كان ثابت القدم على أرض الواقع. لكن بعيدا عن التمسك بقالب شعري محدد، هناك جسور من التجارب الشعرية خلقت أساليبا تتنوع مع اختلاف بصمة كل شاعر، والقصيدة البعيدة عن التجديد، تظل في النهاية مبادرة شعرية ومكسب مبدئي، على أن يلتفت للقصيدة الحديثة وللمتلقي أيضاً، فهو من يحترق بنار الشعر.

نص مفتوح

ويؤكد صلاح كايد أن تغيير العالم ليس من مهمات الشعر، "لقد رحلت التحولات الفلسفية والثقافية والفنية الشعر من غنائيته الجماعية إلى مفهوم الرؤية والهوية الفردية. ولم يعد يتصدر المشهدين الثقافي والفني، وإنما تحتل الرواية موقعاً بارزاً ومؤثراً لدى المتلقي وإن كانت ليست الوحيدة، ويظهر ذلك جلياً من ناحية الكم الهائل من النصوص الروائية التي تنتج سنوياً، ومن ناحية أخرى تطرقت الرواية لموضوعات شائكة وحيوية يومية ونشطة ترتبط بصراع الهويات والثقافات. أضف إلى ذلك أن نص الرواية صار فضاءً واسعاً للجيل الحديث خصوصاً للصوت النسوي والمهمش. وكل ذلك شكل رقعة جماهيرية يصعب أن يجاريها الشعر اليوم حضوراً وتأثيراً في العالم".

كايد يكتب نصوصه فقط، دون اهتمام بالتصنيف فهو "متروك للقارئ، وهو مفتوح على مختلف الأجناس الأدبية، أو كما يقول ميخائيل باختين أنه متشرب بروائح أو نسيج كما يحلو لجوليا كريستيفا أن تصطلح عليه، وهذا ما يحقق شيئاً أساسياً من الشعرية".

ويعتقد كايد من جانب آخر أنه "لا يمكن كتابة نص يستحق أن يقرأ إن لم تحضر فيه القراءات المتعددة التي تحقق علاقة حوارية مع النصوص السابقة عليه والمتزامنة معه. ليس قراءة النصوص الشعرية فحسب، بل القراءة في التاريخ والفلسفة والأديان والنظريات، بحيث تخرج ممارسة الكتابة من الأحادية إلى التعددية كلوحة الفسيفساء أو الكولاج".

أصوات متداخلة

إيمان الشاخوري تربطها علاقة وثيقة بالشعر الذي تسمعه من الشخوص التي تتكاثر حولها طوال الوقت، "ذلك لا يتوقف داخلي٬ إنه يعلو، يتجدد، ولا أفهم شيئا من تداخل الأصوات أحياناً. الشعر داخلي يسافر بي إلى كل جهة، هناك الجهات القديمة٬ الجديدة٬ الحداثية. هناك جهات لا أعرف تاريخها ولا اسمها٬ وجهات لا تعترف بالحدود٬ وجهات تعلو فيها الموسيقى".

وتقرأ الشاخوري الشعر من وقت إلى آخر٬ "فعندما تضرب الأفكار في نفس شاعر ما يصبح له صوت مسموع من قبلي٬ وأنا أتتبع الصوت وأصغي، فأجده ينفذ إلى نفسي بأصوات جديدة حاملاً صوراً مختلفة٬ أحياناً يكون سطوعها أشد٬ وأحياناً أجدها معتمة٬ لكن قد تضيئها الصور الموجودة حواليها".

وتفكر عندما تتبع صوت شاعر ما٬ ألا يكون مسموعا من قبل الآخرين أيضاً. مؤمنة بأن شدة تأثير ذلك الصوت في أي شخص تعتمد على مقدار قوته٬ النبرات المختارة ليصعدها أو يهبط منها٬ الفكرة التي يسكنها٬ الشكل الذي يختاره ليحدد بنية الفكرة٬ واستعداد الشخص لهذا الصوت بفكرته ومواضيعه، "فالأفكار تضرب مخيلتي٬ تنفذ منها٬ تعود بأفكار أخرى٬ تشتبك ببعضها فتنبثق أفكار جديدة. الأفكار تنبش الصور المنسية٬ بعضها تحمل صوراً افتراضية٬ بعضها تخلق شخوصاً تتكاثر بعشوائية كبيرة٬ أحيانا يحدثونني في وقت واحد٬ فأضيع داخل الأفكار بين الصور والشخوص والأصوات. أنفض نفسي فتسقط منها صورة تعكس كلمات تلتصق بنفسها ليكون لها اسم واحد: قصيدة".