الجزائر - جمال كريمي

منذ استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي عام 1962، وإلى اليوم، الصدفة جعلت من سجن الحراش في الضاحية الشرقية للعاصمة، اختصاراً لتاريخ السياسة في الجزائر وتعاملها مع معارضيها، وهذا السجن صار حالياً يذكر على السنة الجزائريين وفي الخارج صباحاً ومساءً، وتتصدر أخباره عناوين وسائل الإعلام، بعد تحويل عدد كبير من كبار المسؤولين في البلاد كرؤساء وزراء ووزراء ومحافظين وقضاة، وعسكريين وكبار رجال الإعمال إلى ذات المؤسسة العقابية، ممن يتابعون في قضايا فساد، بعد الإطاحة بحكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.

ذاكرة سجن الحراش وجدرانه، بإمكانها مد من يريد فهم منعرجات وصدامات السياسة، مع لعنة "أولوية العسكري على السياسي" أو العكس، والتي كانت محل تجاذب بين قادة الحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار، وهي تفاصيل وقرارات غير عادية في أزمنة متقاربة، ومتباعدة في الرؤى والأهداف..



هذا السجن عرفه الوطنيون الجزائريون خلال العهد الاستعماري، منهم الزعيم مصالي الحاج الذي يسمى "أب الحركة الوطنية"، والسياسي الكبير عبان رمضان "1955".

وبعدما استولى جيش الحدود وجماعة وجدة على العاصمة، في صيف 1962، الذي اقترن بـ"حرب الولايات" وسقوط ألف مجاهد بـ"رصاصات صديقة"، تعرضت حكومة أحمد بن بلة الذي كان أول رئيس للجزائر المستقلة، إلى حملة دولية حول حقوق الإنسان، حركتها فرنسا لإطلاق سراح من تركتهم خلفها، بعدما منتهم بترحيلهم معها، وهكذا، أطلقت السلطات أول دفعة من الحركى المسجونين بالحراش، لـ"أسباب إنسانية"..

في 1964، فضل الرئيس الراحل أحمد بن بلة، تحويل عقوبة الإعدام الصادرة في حق المجاهد حسين آيت أحمد والذي عارض هيمنة جيش الحدود على الحكم، إلى سجن، بعد العفو عليه عقب تمرد قاده بمنطقة القبائل ضد جماعة وجدة المستأثرة بالحكم.. وعامين بعد هذا التاريخ فرّ آيت أحمد من السجن، ولجأ إلى فرنسا ثم سويسرا منفياً حتى وفاته.

في يونيو1965، كانت الدبابة أسرع من أحلام بن بلة في البقاء في السلطة، بعد إزاحة "الحية الصفرا"، مثلما كان يسمي هواري بومدين، الذي أمر باقتياده من فيلا جولي بالعاصمة إلى سجن الحراش.. وهو ببدلة النوم، كما تؤكد الروايات عند تلك الحادثة.

سجن الحراش الواقع على بعد 10 كلم جنوب العاصمة يستوعب ألفي سجين وقد يتجاوز ذلك، مثلما حصل سنوات "الحرب الأهلية" في التسعينيات.

دخله عناصر من الجبهة الإسلامية للإنقاذ مكبلين بالأغلال، منهم علي بالحاج، وآلاف من قيادات الحزب المحظور الفائز بأول انتخابات تشريعية في البلاد بعد التعددية، الذين رحلوا منه نحو محتشدات الصحراء، بعد تفعيل "قانون خاص" بمكافحة الإرهاب في التسعينيات..

قضى فيه محمد بن شيكو، مدير صحيفة "لوماتان" سنتين كتب خلالهما يومياته التي صدرت تحت عنوان "زنزانات الجزائر"، ودخله بسبب كتاب آخر عن الرئيس المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة.

قررت السلطات غلقه وتعويضه بسجن جديد، وهو ما حصل مع سجن سركاجي الشهير، وبقيت أبواب سجن الحراش متلهفة لاستقبال مزيد من السجناء، من القانون العام، والمدانين في قضايا سياسية ومذهبية، وأخيرا في قضايا يتمنى من يتعرضون لـ"قنبلة إعلامية" متواصلة حول رجال أعمال أوقفوا وأحيلوا على الحبس المؤقت، فهم، في انتظار محاكمتهم في قضايا فساد، قد تجعل من شُهرة هذا السجن، شهرة عابرة للقارات في زمن الفضاء الأزرق، وأكثر بريقاً من أحكام قد تصدُر، وتسقط دمعات ساخنة على خد مناخ الأعمال، وتعكسها مرايا لا ترحم الذين يكثرون من الماكياج، ويخاطبونها بالصيغة المعروفة: مرآتي يا مرآتي، من هو الأكثر تأثيراً في السياسة!

نحن الآن أمام مشاهد تكبيل كبار رجالات الأعمال ممن يعرفون أنهم من "الاوليغارشية المتوحشة" كعلي حداد، ثم إسعد ربراب، والإخوة كونيناف، وقد يلتحق بهؤلاء آخرون، بفضل بيانات تظهر مختصرة، في زمن الأخبار البراقة في عواجل حمراء تسر الناظرين، وتشفط لحظات التأمل من مدمني متابعة ما يجري، دون "ريطروفيزور"..

من الاستقلال وحتى اليوم، استقبل سجن الحراش أنواعاً من الجزائريين، من سادة الحركة الوطنية، إلى الخونة، مروراً بـ"المغرر بهم" ووصولاً إلى المستفيدين من عسل السلطة بريعها وريقها.. وغدرها، متى أخطأت في تقدير خطورة زلزال المال على سلم ريختر السياسة!