زينب سعيد

تتغير الحقبة الزمنية معرية معها ملامح المكان الأصيلة، تكسوه بصبغة مستجملة حداثية، وقد نقول إنها سنة الله في أرضه، حيث جعل من المرء خليفة فيها ليعمرها نسبيا في نطاق النمو المعرفي والآخر الاقتصادي المتواترين.

قد تتعلق الروح بزاوية من زوايا الأطلال، يكون لها عبق خاص، يروي النفس الظمئى التائقة لخلع أساور الحاضر واعتناق الماضي كما كان، قد تكون روائح قطرات نفط انبثقت للتو من بئرها أو رذاذ ماء متطاير يعانق قسمات الوجه فيزيده نضارة حضارية.



وها نحن على أعقاب مشاهدة العمل الدرامي (لا موسيقى في الأحمدي) نكاد نجزم ونقول ان الدراما الخليجية اليوم عادت إلى سابق عهدها، وحققت مكانة ومنزلة رفيعة في الحياة والفن، وها هو (لا موسيقى في الأحمدي) أصبح منهجاً روائياً، ذو أبعاد فلسفية وإنسانية وأعماق ثقافية حضارية وتاريخية، وحمل جملة من الصور المعبرة عن الخصائص العقلية والفكرية والدينية، ومن ثم الأدبية والفنية.

وبهذا كله أثبت العمل أنه صورة ودلالة، صورة فنية ممتعة جذابة، لها سماتها المختلفة عن تلك التي عرفها الجمهور من أعمال درامية، فالصورة الفنية هنا أساسها الحوار الرصين الذي عقدت الكاتبة منى الشمري صلته بالزمان والمكان والإنسان، لأن الفنانين لونوها بظلال جميلة، ووشحوها بأثواب مثيرة للعين والعقل. حتى ان المشاهد المتسرع في مشاهدته لن يصل إلى مراد الكاتبة. وهذا ما يعرف باسم الدلالة المجازية، التي لقيت عنتاً كبيراً من معتنقي الحداثة في تفسيراتهم لها.

مرآة فنية جمالية

إن كون هذا العمل رواية، أجده مرآة فنية جمالية، توحي بدلالات تعبيرية غنية لكثير من ألوان الحياة في سياقها الإنساني والزماني والمكاني والثقافي والفني. وهو منهج ومصدر غني ثر للماضي والحاضر، تتعدد طرائقه ولا تختلف، وتتفرع مشاهده ولا تفترق.

بالكاد أستطيع أن أقول ان هذا العمل حرك بي أوتار الوجد وأعادني إلى الزمن الجميل، حيث يأخذنا إلى أصالة الإرث الثقافي والحضاري والقومي، لسبر أغواره، ويدرك بحكمة نافذة وشفافية كبيرة الأحداث التاريخية التي عجت بها حقبة زمنية مهمة في تاريخ الكويت، لكن في الوقت ذاته ما شدني بالفعل للعمل هو سلاسة الأحداث الحضارية والتاريخية المعروضة قبالة المشاهد الدرامية التي جاءت مدعمة للفكرة المطروحة، ذلك ان جل الأعمال الروائية التاريخية المصورة تكون متخمة بالأحداث، متشبعة بأمور الحل والميراث، لكن هذا العمل جاء مغايراً تماماً.

أقف أولاً عند شخصية عضيبان، وكأني به في طوله كالنخلة التي تقف في وجه الريح الصرصر، تقاومه بكلما أوتيت من قوة. صحيح أن تلك النخلة ذات أغصان متدلية تظلل بحنانيها على كل من يحيط بها بيئيا، وتمدنا بكل جديد من ثمر طيب، لكن هي النخلة ذاتها تقف عنيدة في وجه الريح العابرة التي تريد أن تهد من عاداته وتقاليده كما يرى وتجعلها هباء منثوراً.

أضيق من ثقب الإبرة

أما لولوة التي أجدها في زاوية أضيق من ثقب الإبرة، فلا أدري إن كانت ستقبل بالجفول وبالواقع الذي سيجبرها على الرضوخ لمعتقدات الجد عضيبان الأجودي، أم أنها ستنعتق من بوتقة الانجرار خلف هيمنة الأجداد الأوائل ورغباتهم.

وأثني هنا على المخرج محمد دحام الشمري من ارتضى بالفنانة شيماء سليمان بطلة للرواية، فإلى جانب تلك الملامح الشرقية ذات القسمات الهادئة التي ما عرفها الزيف، وكونها صاحبة الصوت الجهوري ذي مخارج الحروف الواضحة، بتلوين صوتي فائق الدقة من روح مهمشة أحيانا وتائقة للخلاص مرة أخرى، نجد خفة حركات الجسد التي ما عرفت للغة الاصطناع من سبيل وكانت لوحدها لغة للوحات الفنية، إلى جانب الإحساس الصادق عند تأدية المشاهد، والروح النقية للفنانة، وكل ذلك انعكس على مشاهد العمل بالفعل، وكأني لا أستطيع أن أتخيل بديلا لدور هذه البطولة.

هذه الفنانة الصاعدة تذكرني بالفنانة المخضرمة رجاء محمد التي جمعت بين الغناء والتمثيل، فكان صوتها الحريري الناعم الدافئ جوهر شخصيتها سواء في دور الغناء أو على خشبات التمثيل، فعشنا معها الإحساس قلباً وقالباً. العلامة الفارقة بين الفنانة رجاء محمد والفنانة الشابة شيماء سليمان هي أن الأولى عاشت في زمن جميل نقي بكل من فيه، زمن لم ولن يتكرر، نشتاق إليه في رحاب الفن الكويتي الذي كان وما زال منارة للفن والأدب الذي يحتذى به، بيد ان الثانية تعيش في زمن نكاد نقول أنه قد اختلط به "الحابل بالنابل"، وفيه فئة ليست بالبسيطة يظهر أفرادها خلف الشاشة الفضية متخفين خلف ملامح مزيفة وتقاسيم وجه حادة مبالغ في رسمها تفتقر لأدنى معايير الشعور والإحساس حين تأدية المشهد، فكأنما هي آلة مستجملة مسيرة تملي على المشاهد ما حفظته من مشاهد، ويطلق على هذه الشاكلة للأسف لقب فنان.

لكن (لولوة) كانت لؤلؤة الواقع المعاش قبل أن تكون لؤلؤة العمل الدرامي، صانت عقلية المشاهد فرفع الجميع لها القبعة، مرتضين لها الدور الذي لم يكن إلا ليليق بها وحدها في اعتقادي.

هذه الرواية للكاتبة الأديبة منى الشمري ما أراها إلا أنموذجاً واقعياً يحتذى به في ظل احتدام الأمور بين البشرية. العمل يزخر بالاختلافات العرقية والمذهبية، ومظاهر اختلاف اللون والبيئة، لكن في الوقت ذاته يعالج كل تلك الاختلافات بثقافة الاختلاف بلا خلاف، بمشاهد سلسلة مترابطة مبطنة الغاية والهدف.

أكاد أن أقول صدقاً، لقد انقطعت عن مشاهدة الأعمال الرمضانية لفترة من الزمن، لكن هذا العمل الدرامي الذي تفاجأت مؤخرا بكونه روائي الأصل، شدني من حيث لا أحتسب. ربما يعود السبب لمشاهد البحر الأزرق الذي يعالج حباته مع ساحل الفحيحيل بكل أناة وتؤدة، أم أن ذلك لمناظر البوانيش الآسرة التي تظهر وقت تتر العمل والتي ترسو وادعة تحلم بيوم جديد بعد انصرام أيام اليأس الفائتة، أم لسماع صوت الصيادين والغاصة والنهامة الذين يرتلون المواويل في مقدمة العمل، أو ربما لأرواح الفنانين الذين أدوا مشاهد العمل بكل مرونة وأريحية وصدق للشعور والإحساس، والذي انعكس بدوره على عقلية المشاهد فتقبل العمل من أوسع أبواب قلبه قبل عقله.

على عتبة مشهد الكنيسة

يقول الله تعالى فى كتابه }ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين{ صدق الله العظيم. ومن تفسير الآية الكريمة نفهم أن الاختلاف ليس أمراً مقبولاً فقط، بل وجب علينا أيضاً حمايته والدفاع عنه، لأنه مشيئة الله تعالى على الأرض، وقد كفل الإسلام للبشر عامة، وللمسلمين خاصة هذا الحق، فحق الاختلاف في الرأي هو حق أصيل من حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي، وهو قيمة عالية من القيم الإنسانية التي يجب إدراكها من جانب المجتمع والتعامل معها بوعي.

وقد وردت مادة الاختلاف بصيغها المختلفة في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضوعا، وقد شمل هذا الاختلاف الظواهر الطبيعية والمجال المادي في هذا الكون، كما شملت المجال الإنساني بكافة أشكاله وتشكلاته، من اختلاف الصور والألوان إلى اختلاف الألسنة واللغات إلى اختلاف العقائد والأفكار، فالوجود مختلف بكل ما فيه.

إنني أدرك على أعقاب هذا المشهد إن الروائية الفذة قد (ضربت عصفورين بحجر)، العصفور أو الأنموذج المضروب الأول هو تقبل الآخرين بمختلف أطيافهم الدينية والعقائدية، فلكم دينكم ولي دين، فكان مشهدا رائعا يحتذى به في مجال الانفتاح على الآخرين وبث روح التسامح بين الأديان، أما العصفور الثاني الذي لم تغفل عنه الروائية وأحييه عليها فهو حين توازن الكلام المتلو في أركان القصيدة بآيات الله التي تدعو إلى الوحدانية والتي جاءت بتلاوة عطرة من فاه الجد عضيبان، فكأنما جميع الأديان السماوية ذات نقطة مشتركة وهي الدعوة إلى الوحدانية، وفي الوقت نفسه بحكم الفطرة والعقيدة الإسلامية التي تشبعت بها روح لولوة إثر تنشئتها على يد الجد الذي ما رام عن إكسابها كل ما من شأنه تغذية بصيرتها سواء من ناحية دينية أو ثقافية أو أدبية، فنرى أنه قد طغى صوت الجد الرؤوم على صوت صلوات الكنيسة، إن هذا المشهد الدرامي لتقشعر له الأبدان أو بالأحرى "يوقف شعر الجسد" دون مبالغة في القول.

قد يظن البعض إن هذه الرؤية التي دونتها على أعقاب مشاهدتي للعمل قد جاءت من قلم فذ عاش تلك الفترة أو لنقل في فترة زمنية مقاربة لها، فاستطاع أن يربط بين الواقع وما ظهر بالعمل، لكن الحقيقة تقول إنني بحرينية من جيل التسعينيات، بالكاد أرى نفسي فعلا عشت تلك الفترة وعلى أرض الكويت الحبيبة بالتحديد، بعد أن استدركت متابعة ذاك العمل الضخم. فشكراً لطاقم العمل فرداً فرداً، ولا غاب صداه.